مكافحة الإتجار بالبشر.. عملية أمنية تكشف الاستغلال القسري للنساء في بيرو
مكافحة الإتجار بالبشر.. عملية أمنية تكشف الاستغلال القسري للنساء في بيرو
في مشهد إنساني مؤثر، أعلن مكتب المدعي العام في بيرو، الأحد، في بيان عن تحرير ما لا يقل عن ثلاثين امرأة، بين بيروفيات وأجنبيات، في عملية نوعية شمال غرب العاصمة ليما، لافتاً إلى أن العملية الأمنية استهدفت ثلاثة مواقع صناعية في منطقة بوينتي بيدرا.
وأسفرت العملية عن اعتقال ستة أشخاص يشتبه بانتمائهم لشبكة تعرف باسم كابتادوريس ديل نورتي، التي تنشط منذ عام 2024 في استدراج النساء عبر عروض عمل وهمية، قبل إجبارهن على الاستغلال الجنسي أو العمل القسري.
المتهم الأبرز في القضية وفق بيان المدعي العام كان ميغيل سانشيز، البالغ من العمر خمسين عاماً، وهو رجل أعمال سبق أن أُغلقت إحدى منشآته بسبب شبهات مماثلة.
ورغم سجله الجنائي الحافل بقضايا الدعارة والإتجار، فقد عاد ليستأنف نشاطه غير القانوني، ما يعكس الثغرات التي تسمح لمثل هؤلاء بالعودة إلى الساحة بحسب صحيفة "إنفوباى" الأرجنتينية.
الاستغلال عبر الأوهام
توضح البيانات الرسمية في بيرو أن تسعاً من كل عشر ضحايا يتم استدراجهم عبر إعلانات وظائف وهمية، ما يكشف كيف تعتمد هذه العصابات على الأوضاع الاقتصادية الهشة لتوسيع أنشطتها، فالنساء اللواتي يبحثن عن فرصة عمل أو وسيلة لدعم أسرهن يجدن أنفسهن في مواجهة استغلال جنسي أو تشغيل قسري.
القانون البيروفي ينص على عقوبة تصل إلى خمسة وعشرين عاماً بحق المتورطين في الإتجار بالبشر، غير أن شدة العقوبة لم تردع الشبكات الإجرامية في بيرو، إذ تستغل ضعف الرقابة وضعف قدرة السلطات على التنفيذ، هذا التناقض بين النصوص القانونية والواقع يفتح الباب لأسئلة كبرى حول قدرة الدولة على التصدي لهذا النوع من الجرائم المنظمة.
وفق مراقبين، فإن الوضع الاجتماعي في المدن الكبرى مثل ليما يخلق بيئة خصبة للاتجار بالبشر، فالمهاجرون والنساء في المناطق الفقيرة يشكلون الفئة الأكثر عرضة، ولا سيما مع غياب الحماية الاجتماعية وتفشي البطالة،و ضعف الوعي المجتمعي يزيد الطين بلة، إذ تتكرر حكايات النساء اللواتي وقعن ضحايا بعد قبول فرص عمل غير موثوقة.
الاستغلال لم يعد يقتصر على الجانب الجنسي، بل توسع ليشمل تشغيل النساء في أعمال شاقة بأجور زهيدة أو من دون أجر، هذا التنويع في أنماط الجريمة يعكس تطور أساليب العصابات، وقدرتها على تكييف نشاطها بحسب ظروف السوق والمجتمع.
المجتمع الدولي يدخل على الخط
الأمم المتحدة والمنظمات الدولية اعتبرت أن قضية بيرو تعكس صورة أوسع لأزمة عالمية، وقد أكدت منظمة الهجرة الدولية أن الإتجار بالبشر جريمة عابرة للحدود تستلزم تعاوناً بين الدول، وشدد خوسيه دافالوس، رئيس بعثة المنظمة في بيرو، على أن المنظمة دعمت البلاد لعشر سنوات عبر تطوير قواعد بيانات خاصة بالضحايا وتدريب المحققين على كشف الشبكات.
منظمة العمل الدولية بدورها دعمت مبادرة بيروفية بعنوان مسار التشغيل، تهدف إلى دمج الناجيات في سوق العمل الرسمي، عبر برامج تدريبية توفر لهن مهارات مهنية بديلة وتحميهن من الوقوع مرة أخرى في شباك العصابات.
أما مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة فقد ذكّر بأن بيرو طرف في بروتوكول الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار بالبشر، وهو معاهدة دولية تلزم الدول الأعضاء بسن تشريعات وطنية صارمة وتطوير التعاون القضائي وتبادل المعلومات، كما دعمت هيئة الأمم المتحدة للمرأة مشاريع محلية مثل مشروع لا مزيد من النساء غير المرئيات، الذي عمل في مناطق التعدين غير الرسمية حيث تنتشر أشكال الاستغلال، وركز على تقديم الدعم النفسي والقانوني والاقتصادي للضحايا.
المسألة لا تقتصر على بيرو وحدها، إذ ترتبط الشبكات الإجرامية بنظيراتها في كولومبيا والإكوادور وتشيلي، وأدى التعاون بين النيابات العامة في أمريكا اللاتينية إلى إنشاء شبكة إيبيرو-أمريكية لمكافحة الإتجار بالبشر، هدفها تبادل المعلومات وملاحقة العصابات العابرة للحدود.
الأبعاد الإنسانية بعد التحرير
التحرير لا يعني بالضرورة نهاية المعاناة، فكثير من النساء اللواتي تم إنقاذهن يعانين صدمات نفسية واضطرابات ما بعد الصدمة، ويواجهن صعوبات في إعادة الاندماج بالمجتمع، وتؤكد المنظمات الحقوقية أن الدعم النفسي وإعادة الإدماج الاجتماعي هما التحدي الأكبر بعد الإنقاذ.
وتواجه بيرو مشكلة نقص التمويل المخصص لحماية الضحايا، إذ تعتمد -إلى حد كبير- على منظمات المجتمع المدني التي تعاني بدورها من محدودية الموارد. هذا النقص يجعل بعض الناجيات عرضة للعودة مجدداً إلى دوامة الاستغلال، في غياب برامج متابعة طويلة الأمد.
سلطت العملية الأمنية الأخيرة في ليما الضوء على مأساة حقيقية يعيشها ضحايا الإتجار بالبشر في بيرو، وهذه ليست قضية محلية فحسب، بل جزء من معركة عالمية ضد جريمة منظمة تستغل الفقر والهشاشة الإنسانية.
وتؤكد المنظمات الحقوقية أن المستقبل يتطلب من بيرو ومن شركائها الإقليميين والدوليين التزاماً أكبر ببناء بيئة آمنة، حيث لا يكون الفقر ولا الهشاشة الاجتماعية بوابة لامتهان كرامة البشر، لافتة إلى أن النجاح في هذه المعركة لن يقاس فقط بعدد المعتقلين، بل بقدرة الدولة والمجتمع الدولي على حماية الضحايا، وفتح أبواب جديدة لحياة كريمة لهن.