تصعيد ضد المجتمع المدني.. تونس تعلق أنشطة المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب
تصعيد ضد المجتمع المدني.. تونس تعلق أنشطة المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب
في خطوة أثارت قلق الأوساط الحقوقية داخل تونس وخارجها، أعلنت السلطات تعليق أنشطة المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب لمدة ثلاثين يوماً، لتنضم بذلك إلى سلسلة من الجمعيات والمنظمات المدنية التي شملتها قرارات التجميد مؤخرًا، والقرار الذي بررته السلطات بأسباب إدارية وقانونية، اعتبرته منظمات حقوقية مؤشراً لتضييق متزايد على المجتمع المدني في البلاد.
أكد مكتب المنظمة في تونس الأربعاء أنه تلقى إشعاراً رسمياً من السلطات بقرار التعليق، موضحاً أن القرار يمنعها مؤقتاً من تقديم المساعدة المباشرة لضحايا التعذيب وعائلاتهم، ويجمد برامجها القانونية والطبية والنفسية.
وأشار المكتب إلى أن هذه الخطوة تأتي في إطار نمط متكرر من القرارات الإدارية التي تستهدف منظمات مستقلة تعمل في مجال الدفاع عن الحريات وفق فرانس برس.
منظمة في مرمى الاستهداف
تعد المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، التي تتخذ من جنيف مقراً لها وتعمل في أكثر من تسعين دولة، من أبرز الهيئات الدولية المتخصصة في توثيق الانتهاكات ومساندة ضحايا التعذيب، وقد أسهم فرعها التونسي على مدى سنوات في تقديم الدعم القانوني والنفسي للمعتقلين السابقين والضحايا، وفي تعزيز ثقافة المحاسبة والشفافية داخل المؤسسات الأمنية والقضائية.
قرار تعليق المنظمة جاء بعد أيام من قرارات مشابهة شملت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهما من أبرز الجمعيات التي لعبت أدواراً محورية في الدفاع عن حقوق المرأة والمهاجرين والحريات العامة، وأعلنت الجمعيتان بدورهما أنهما تلقتا قرارات تعليق بحجة مخالفات تتعلق بنظام الجمعيات، لكن حقوقيين وصفوا المبررات بأنها فضفاضة وتستعمل لتقويض العمل المستقل.
تضييق متزايد بعد 2021
منذ تولي الرئيس قيس سعيّد جميع الصلاحيات التنفيذية والتشريعية عام 2021، تتصاعد المخاوف بشأن تقلص الحريات العامة وتراجع دور المؤسسات المستقلة.
ويؤكد مراقبون أن سلسلة قرارات التجميد والتعليق تمثل عودة إلى الممارسات التي عرفتها البلاد قبل ثورة 2011، حين كانت المنظمات المستقلة تعمل تحت ضغط دائم.
الرئيس التونسي كان قد وجه أكثر من مرة اتهامات إلى منظمات المجتمع المدني بتلقي تمويلات أجنبية ضخمة لخدمة أجندات سياسية، مؤكداً أن الدولة لن تتسامح مع ما اعتبره عبثاً بالسيادة الوطنية.
وفي المقابل، تؤكد المنظمات المعنية أن نشاطها قانوني وعلني، وأن التمويلات تخضع للمراقبة القانونية، وأن الهدف من تلك الاتهامات هو إسكات الأصوات المنتقدة.
من الحرية إلى الحذر
بعد الثورة، كانت تونس تُعد نموذجاً عربياً في حرية العمل المدني، حيث شهدت البلاد ولادة مئات الجمعيات الحقوقية والإنسانية، غير أن المناخ تغيّر في السنوات الأخيرة، إذ بات كثير من الناشطين يتحدثون عن بيئة يسودها الحذر والخوف من الملاحقة الإدارية أو القضائية، وبعض الجمعيات تفضّل اليوم العمل بهدوء دون إعلان عن أنشطتها تجنباً للصدام مع السلطة.
تعليق نشاط المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب يحمل انعكاسات مباشرة على ضحايا الانتهاكات الذين يعتمدون على خدماتها القانونية والطبية.
وتقول ناشطة حقوقية في العاصمة تونس إن المنظمة تمثل شريان حياة لكثير من الأسر التي تبحث عن العدالة، وإن حرمانها من العمل حتى لفترة محدودة يعني ترك الضحايا دون دعم أو سند.
قلق دولي
أثارت القرارات الأخيرة ردود فعل في أوساط دبلوماسية ومنظمات دولية، وأكدت مصادر أوروبية أن تعليق أنشطة المنظمات المستقلة يبعث بإشارات سلبية بشأن التزامات تونس في مجال حقوق الإنسان، وهو ملف يؤثر في علاقاتها مع شركائها الغربيين الذين يربطون التعاون المالي والاقتصادي باحترام المعايير الديمقراطية.
في المقابل، تؤكد الحكومة التونسية أن الإجراءات المتخذة ليست استهدافاً للمجتمع المدني، بل تهدف إلى فرض الشفافية وضمان احترام القوانين المنظمة للجمعيات.
وتقول إن فترات التعليق مؤقتة وقابلة للمراجعة بعد تسوية الأوضاع القانونية، مشددة على أن الدولة تحرص على حماية العمل الجمعياتي الجاد.
ضغط دولي وأزمة داخلية
تعيش البلاد منذ سنوات أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة مع ارتفاع نسب البطالة وتراجع القدرة الشرائية وتزايد محاولات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، ويرى محللون أن هذه الأوضاع تدفع السلطة إلى تشديد قبضتها على المجال العام خشية توسع رقعة المعارضة، في حين يرى آخرون أن الحكومة تسعى إلى إعادة تنظيم المجال الجمعياتي في اتجاه يخدم أولوياتها السياسية والأمنية.
تعليق عمل منظمة متخصصة في مكافحة التعذيب في بلد ما زال يواجه انتقادات حول ممارسات أمنية داخل السجون والمراكز، يُعد خطوة مثيرة للقلق، ويرى حقوقيون أن إضعاف المؤسسات المستقلة التي توفر الدعم والمساءلة يقوّض الثقة في المسار الديمقراطي، ويترك الضحايا بلا حماية، كما قد يؤدي إلى تراجع مكانة تونس على الساحة الدولية.
مع اتساع رقعة قرارات التجميد والتعليق، يبدو أن العلاقة بين السلطة والمنظمات الحقوقية تتجه نحو مزيد من التوتر، وفي غياب حوار حقيقي يوازن بين احترام القانون وحماية الاستقلالية، يخشى كثيرون أن تشهد البلاد تراجعاً إضافياً في الحريات العامة. وبينما تنشغل الحكومة بالرد على الانتقادات الخارجية، يبقى السؤال الأهم: من سيدافع عن الضحايا إن صمتت أصوات المجتمع المدني؟










