"هاماماتسو".. مدينة يابانية تراهن على المهاجرين لإنعاش اقتصادها
"هاماماتسو".. مدينة يابانية تراهن على المهاجرين لإنعاش اقتصادها
تواجه اليابان معضلة ديموغرافية متفاقمة، إذ يستمر عدد سكانها في الانكماش بمعدلات تنذر بمستقبل اقتصادي واجتماعي خانق، وبينما لا تزال طوكيو تجذب الشباب اليابانيين من مختلف الأقاليم، تُكافح المدن الصناعية الكبرى خارج العاصمة للحفاظ على قواها العاملة، بل وعلى بقائها الحيوي.
وفي قلب هذه الصورة تقف مدينة "هاماماتسو"، الواقعة على بُعد 250 كيلومتراً إلى الغرب من طوكيو، والتي يبلغ عدد سكانها نحو 770 ألف نسمة، حيث يراهن العمدة يوسوكي ناكانو على خيار واحد بات حاسماً: جذب المهاجرين لتعويض الانخفاض السكاني، على أمل أن تتحول المدينة إلى نموذج تحتذي به مدن أخرى في اليابان.
هذا التوجه الذي وثّقته صحيفة “فايننشيال تايمز” في تقرير لها، اليوم الأربعاء، يلتقي مع ما طرحه باحثون في منصة "إيست آسيا فوروم" الأكاديمية، التي تناولت السياسات المحلية والوطنية المرتبطة بالهجرة والاندماج في اليابان، وخاصة في مدن مثل هاماماتسو وكاواساكي.
ولا تعد "هاماماتسو" مدينة عادية، فقد نشأت فيها شركة هوندا العالمية، وتستضيف مقرات رئيسية لعمالقة مثل سوزوكي وياماها وكاواي ورولاند، أي إنها مركز صناعي أعطى اليابان سمعتها في السيارات والموسيقى والآلات الدقيقة.
لكن خلف هذا الإرث الصناعي، يلوح هاجس تناقص السكان، ويؤكد العمدة ناكانو أن انخفاض عدد السكان "يُلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد المحلي"، مشدداً على أن الحل يكمن في استقطاب الوافدين من الخارج لوقف هذا النزيف البشري.
وتشير التقديرات إلى أن عدد سكان "هاماماتسو" قد ينخفض بنسبة 10% بحلول عام 2040، ويبلغ عدد الأجانب المقيمين فيها حالياً نحو 30 ألف نسمة، بينهم برازيليون وهنود وفلبينيون وصينيون وكوريون.
موجات هجرة متعاقبة
ليست هذه المرة الأولى التي تستقبل فيها "هاماماتسو" أعداداً كبيرة من المهاجرين، ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وخلال "المعجزة الاقتصادية اليابانية"، جذبت مصانع السيارات آلاف البرازيليين وغيرهم للعمل في وظائف منخفضة الأجر، بل إن أجهزة الصراف الآلي في المدينة أُعدّت لتقديم خدماتها باللغة البرتغالية.
غير أن الأزمة المالية العالمية عام 2008 دفعت الحكومة اليابانية إلى تقديم حوافز مالية للمهاجرين الراغبين في العودة إلى بلدانهم، خشية تفاقم البطالة الداخلية.
اليوم يختلف الوضع، فالحاجة ليست لتوسيع النمو الصناعي فقط، بل لإنقاذ المدن من التقلص السكاني والهجرة المستمرة إلى طوكيو.
العمال المهرة
تشير "فايننشيال تايمز" إلى أن الموجة الجديدة من الهجرة أكثر تنوعاً من السابقة، وتشمل مهندسين ومطوري برمجيات، فقد استقدمت شركة سوزوكي نحو 200 مهندس من فرعها الهندي لتعزيز خبراتها في مجال البرمجيات، وهو قطاع ضعيف تقليدياً في الشركات اليابانية.
لكن هذه الجهود تصطدم بمعضلة أخرى: قلة من المهاجرين ينوون البقاء طويلاً، يقول سوميش، وهو مهندس هندي يعمل في سوزوكي: "80% على الأقل لا ينوون البقاء"، ويعزو آخرون ذلك إلى نقص المدارس الدولية والخدمات العائلية.
وتعي سلطات المدينة هذه الثغرات، إذ تخطط لافتتاح مدارس جديدة وتوسيع خدمات الاندماج الثقافي ودروس اللغة اليابانية، إلى جانب الاستعانة بمترجمين فوريين لخدمة المقيمين الأجانب.
معركة سياسية ومجتمعية
ولا يجري استقطاب المهاجرين في فراغ سياسي، فقد تحولت الهجرة إلى قضية ساخنة في انتخابات مجلس الشيوخ الياباني في يوليو، حيث رفعت أحزاب يمينية شعارات مناهضة للأجانب.
يشير أتسوشي كوندو، وهو أستاذ بجامعة ميجو في ناغويا، إلى أن قبول المجتمع الياباني للمهاجرين “مرتبط بالوضع الاقتصادي”، ففي ظل نقص العمالة هناك ترحيب نسبي، لكن هذا الموقف قد يتغير إذا تبدلت الظروف.
وتوازي هذه التوجهات المحلية جهوداً على المستوى الوطني لإصلاح نظام استقدام العمالة، وبحسب "إيست آسيا فوروم"، تستقبل اليابان سنوياً نحو 330 ألف عامل مهاجر، بينهم 60 ألفاً مقيمون دائمون و270 ألفاً مؤقتون، وبحلول أكتوبر 2023، تجاوز عدد العمال الأجانب مليوني عامل، إلا أن الطريق إلى إقامة طويلة الأمد لا يزال مليئاً بالعقبات، فوزارة العدل اليابانية تفرض قيوداً على جلب العائلات، وتحدد إقامات قصيرة للعمال الضيوف، باستثناء ذوي المهارات العالية.
إقرار قانون جديد
دفع هذا الوضع البرلمان في يونيو 2024 إلى إقرار قانون جديد يحوّل "برنامج التدريب الفني" إلى نظام التدريب والتوظيف (TES)، وقد سمح الإصلاح للعمال بتغيير صاحب العمل بعد عام أو عامين، وخفف القيود الصارمة التي تعرضت لانتقادات دولية.
لكن، وكما توضح "إيست آسيا فوروم"، يبقى النظام محدوداً، إذ لا ينطبق على جميع القطاعات، وتظل معظم المجالات محكومة بسقوف عددية على المهاجرين. وهو ما يجعل النظام أقرب إلى معالجة جزئية لا إلى سياسة هجرة شاملة.
وفي ظل غياب استراتيجية وطنية واضحة، تصدرت بعض البلديات، مثل كاواساكي وهاماماتسو، جهود التكامل المحلي.
أنشأت كاواساكي التي تضم نحو 50 ألف أجنبي، منذ 1996 جمعية ممثلي السكان الأجانب (KCRA) للمشاركة في صنع القرار المحلي، وقدمت هذه الجمعية عشرات المقترحات لمعالجة قضايا التمييز في السكن والتعليم والعمل، بل ناقشت حقوق التصويت المحلي للأجانب.
أما هاماماتسو، فقد أسست مع مدن أخرى شبكة "مجلس البلديات ذات الكثافة السكانية المهاجرة الكبيرة (CMLMP)" عام 2001، والتي توسعت لتشمل 15 بلدية بحلول 2021، لعب المجلس دوراً ضاغطاً على الحكومة المركزية، وأسهم في إصلاح نظام تسجيل الأجانب عام 2012 بحيث أصبحوا يُسجلون مثل المواطنين اليابانيين.
تحدي جذب الشباب اليابانيين
رغم هذه المبادرات، تواجه هاماماتسو معركة موازية هي هجرة الشباب اليابانيين إلى طوكيو، يقول طالب في التاسعة عشرة من عمره لـ "فايننشيال تايمز" إن شقيقته وصديقته السابقة غادرتا للدراسة والعمل في العاصمة ولن تعودا، هو نفسه يخطط للمغادرة، معتبراً أنه "لا شيء يجذب الناس هنا".
يعي العمدة ناكانو صعوبة منافسة طوكيو بفرصها وثقافتها، لكنه يحاول تصوير مدينته بيئة أفضل لتكوين الأسر والاستقرار بعيداً عن ضغوط العاصمة.
يكشف تقاطع ما أوردته "فايننشيال تايمز" مع تحليل "إيست آسيا فوروم" أن اليابان تقف على عتبة تحول لا مفر منه: إما المضي في بناء سياسة هجرة شاملة تتكامل فيها المبادرات المحلية والوطنية، أو مواجهة انكماش سكاني يهدد قطاعاتها الصناعية وحيويتها المجتمعية.
في هذا السياق، تبرز "هاماماتسو" بوصفها حقل اختبار: إذا نجحت في جذب المهاجرين ودمجهم، فقد تفتح الطريق أمام اليابان بأكملها. أما إذا فشلت، فقد تتعمق عزلة المدن الصناعية، وتبقى طوكيو الوجهة الوحيدة لشباب البلاد.