أمريكيون يبحثون عن ملاذ.. ازدواج الجنسية كخيار حقوقي في عهد ترامب
أمريكيون يبحثون عن ملاذ.. ازدواج الجنسية كخيار حقوقي في عهد ترامب
وُلد مغنّي الأوبرا دانيال كماليتش في نيويورك، ونشأ يمارس الرياضة ويستمتع بالإبحار على شاطئ برايتون قبل أن يعود إلى منزل والدته اليهودية في بروكلين ووالده فصيح اللسان، إيفان كماليتش، أكمل دراسته في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لكنه اكتشف شغفه بالإبحار أكثر من أي مجال آخر.
تحدث كماليتش لصحيفة "الغارديان" عن قلقه المتزايد من أن يصبح لاجئًا سياسيًا من الولايات المتحدة، كما كان والده لاجئًا سياسيًا من يوغوسلافيا، مضيفا: "أريد الحصول على الجنسية الكرواتية لأتمكن من السفر والعمل في أوروبا دون قيود.. وإذا ساءت الأمور، أريد هذا المخرج".
زار كماليتش كرواتيا عام 1998، واستعاد الروابط العائلية التي توطدت بعد وفاة والده في 2011، بدأت الجدية في متابعة الجنسية الكرواتية مع ترجيح فوز ترامب بولاية ثانية، وقلق كماليتش من انخفاض تمويل الفنون وتأثير السياسات على مسيرته المهنية، مشيراً إلى تصاعد معاداة السامية بعد 7 أكتوبر 2023، واعتقالات وترحيلات إدارية، بما في ذلك اعتقال الناشط الفلسطيني محمود خليل.
وأوضح أستاذ القانون بجامعة تمبل بيتر سبيرو أن عدم الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، بجانب جائحة كوفيد-19، جعل الأمريكيين يدركون قيمة الجنسية الثانية كضمانة، موضحا: "لقد أبرز ذلك بوضوح قيمة الجنسية الثانية كضمانة.. هذه فكرة جديدة بالنسبة للأمريكيين؛ فكرة وجود خطة بديلة".
الجنسية عن طريق النسب
سعى المواطنون الأمريكيون الذين يمتلكون والدين أو أجدادًا مولودين في دول أخرى للحصول على الجنسية الثانية عبر حق الدم، نظرًا لأن إجراءات الهجرة التقليدية مكلفة ومعقدة.. حيث أشارت "الغارديان" إلى أن الحصول على الجنسية عن طريق النسب، رغم البيروقراطية، يُعد طريقة أسهل نسبيًا للتمتع بحقوق مزدوجة وحرية التنقل والعمل في الخارج.
وأفادت الصحيفة أن أسباب السعي للجنسية المزدوجة متنوعة، إذ يشعر البعض بأن حقوقهم الإنجابية لم تعد مضمونة، بينما يخشى آخرون على حقوق أطفالهم المتحولين جنسيًا، وهناك من يرى أن العمل الجاد وحده لا يضمن حياة كريمة في الولايات المتحدة.
وحصل هوليس روتليدج، المولود في تكساس، على الجنسية المكسيكية عن طريق والدته، واعتبر ذلك حماية اقتصادية وسياسية لأسرته، وأوضح أن الولايات المتحدة لم تعد توفر الضمانات التي اعتادها المواطنون، وأضاف: "لطالما شعرت أن أمريكا تسعى للتقدم، لكن هذا الشعور يتلاشى.؟ ما هي الأمة؟ ما هو البلد؟".
ومنح مشروع روتليدج فرصة للاحتفاظ بحقوقه وأطفال أسرته، الذين يحملون الآن ثلاث جنسيات بفضل الزوجة المولودة في كندا، وأكد روتليدج أن هذا المخرج القانوني والسياسي أصبح ضرورة أكثر من كونه اختيارًا.
أشار سبيرو إلى أن الحصول على الجنسية المزدوجة كان في الماضي يُعتبر خيانة، مثل تعدد الزوجات، لكنه أصبح اليوم هدفًا طموحًا لـ66% من جيل الألفية وجيل زد في الولايات المتحدة، وبيّن استطلاع هاريس أن الرغبة في الهجرة تضاعفت أربع مرات خلال العقد الماضي.
قدمت روز شانون، البالغة 16 عامًا، طلب الحصول على جواز ألماني عن طريق جدتها الكبرى، لتُسجّل اتصالًا مع أصولها اليهودية التي فُقدت أثناء الحقبة النازية.
وأكدت شانون أنها تعي أن هذه الخطوة ليست مجرد تواصل مع الماضي، بل أيضًا حماية مستقبلها وفرصها الدراسية والمهنية في أوروبا.
أرقام مقلقة
أظهرت بيانات الغارديان من إدارة الهجرة والجمارك وحماية الحدود الأمريكية (ICE) ارتفاعًا ملموسًا في الاعتقالات والاحتجازات والترحيلات منذ تولي ترامب منصبه، حيث بلغت إجمالي الاعتقالات 328630، بزيادة 21180 خلال 14 يومًا، ويحتجز 68440 شخصًا حاليًا، بزيادة 2710، فيما بلغ إجمالي الترحيلات 326390 بزيادة 19220.
وسجلت المملكة المتحدة أعلى عدد طلبات من الأمريكيين للحصول على الجنسية البريطانية منذ 21 عامًا، مع زيادة بنسبة 12% بين يناير ومارس 2025، وفق "يورو نيوز" و"فاينانشيال تايمز".
وقال أونو أوكيرغا، مدير شركة استشارات قانونية في لندن: "الخوف المتزايد من المستقبل السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة، إلى جانب البحث عن استقرار اقتصادي وأمن شخصي أكبر، دفع الكثيرين للبحث عن جنسية ثانية".
كما زادت طلبات التأشيرات الدراسية الأمريكية في بريطانيا بنسبة 9.6%، بما يعكس حساسية مجموعات مثل مجتمع المثليين والمتحولين جنسيًا تجاه السياسات الأمريكية الداخلية.
تحديات قانونية وسياسية
قدّم السيناتور الجمهوري بيرني مورينو مشروع قانون الجنسية الحصرية لعام 2025، الذي يحظر على أي شخص حمل جنسية أمريكية وأجنبية في الوقت نفسه.
وقد ألزمت بنود المشروع حاملي الجنسية المزدوجة بالتخلي عن أي جنسية أخرى خلال عام واحد، مع فقدان الجنسية الأمريكية فورًا في حال عدم الامتثال.
أوضح مورينو أن الهدف هو "ضمان الولاء المطلق والحصري للولايات المتحدة"، لكنه واجه معارضة حقوقية ودستورية كبيرة، وأشار سبيرو إلى أن مشروع القانون يتعارض مع سوابق المحكمة العليا الأمريكية في قضيتَي أفرويم ضد راسك (1967) وفانس ضد تيرازاس (1980)، إذ يشترط الدستور أن يكون التخلي عن الجنسية الأمريكية طوعيًا وبنية صادقة.
أضافت الصحف أن تنفيذ القانون سيكون معقدًا، بسبب عدم وجود سجل مركزي للمواطنين مزدوجي الجنسية، وسيعتمد على الإبلاغ الذاتي، ما قد يؤدي إلى أخطاء إدارية جسيمة.
كما أشار التقرير إلى الأثر الضريبي الكبير لفقدان الجنسية الأمريكية، بما في ذلك فرض ضريبة على الأصول العالمية تصل إلى 23.8% على الأرباح غير المحققة، وضرائب هبات وميراث بنسبة 40% على الأمريكيين المتلقين.
الأثر الحقوقي
لاحظت "الغارديان" أن الأمريكيين يسعون للجنسية الثانية ليس فقط من أجل حرية السفر، بل أيضًا لحماية حقوقهم وحرياتهم الأساسية، خصوصًا بعد تراجع دعم الحقوق الصحية والاجتماعية في ظل إدارة ترامب، مثل تخفيضات ميديكيد وإتلاف مساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
أوضحت مريم ديوب، الباحثة الإنسانية البالغة 24 عامًا، أنها تسعى للحصول على جنسية مزدوجة مع السنغال، موطن والدتها، بسبب صعوبة تحقيق النجاح في الولايات المتحدة كسوداء البشرة دون روابط عائلية قوية، وقالت: "أشعر بالحزن والأسى تجاه مسار البلاد.. لا أعتقد أنها المكان المناسب لي الآن".
تتابع ديوب دراسة حركات السيادة الذاتية في غرب إفريقيا، وتسعى للمساهمة في تغيير السرديات المهيمنة، مؤكدة أن الجواز الثاني يمنح الاعتراف الرسمي والقدرة على بناء حياة جديدة.
ويعكس السعي للحصول على جنسية مزدوجة مخاوف أمريكيين من فقدان الضمانات القانونية والاجتماعية والسياسية في بلدهم الأصلي، وأنه أصبح مخرجًا استراتيجيًا لحماية الأسرة والمستقبل المهني.
كما يُظهر أن السياسات الأمريكية الأخيرة، خصوصًا مشروع قانون الجنسية الحصرية، قد تزيد من تعقيد حياة هؤلاء المواطنين وتؤثر على حقوقهم الدستورية والضريبية.
ويبين سرد قصص كماليتش، روتليدج، شانون، وفرايموث-فريزر أن هذا التحرك ليس مجرد هجرة، بل إعادة تقييم مستمرة للهوية والانتماء، في ظل مناخ سياسي واجتماعي متغير، مما يجعل الجنسية الثانية حقًا فرديًا وقانونيًا واجتماعيًا في آن واحد.










