أزمة الرواتب في الساحل السوري تكشف اتساع فجوة المعيشة وتآكل الثقة العامة

أزمة الرواتب في الساحل السوري تكشف اتساع فجوة المعيشة وتآكل الثقة العامة
أزمة الرواتب وتكلفة المعيشة في سوريا

مع صدور رواتب أغسطس 2025، في سوريا، فوجئ موظفو القطاع العام والمتقاعدون في مدن الساحل السوري بأن الزيادة المقررة بنسبة مئتين في المئة، التي نص عليها مرسوم صدر في 19 يونيو 2025 على أن تسري اعتباراً من يوليو، صُرفت عن أغسطس فقط، في حين بقي يوليو شهراً ضائعاً في دفاتر الرواتب، حيث انقلب الأمل إلى مرارة في طوابير الصرافات، إذ وجد آلاف العاملين أنفسهم أمام دخل لم يعد يواكب أقلّ حاجاتهم، في حين راكمت الأسر ديوناً لشراء الدواء والطعام وسداد إيجارات السكن.

ويؤكد موظفون محليون أن التأخير لم يكن عارضاً، بل تكرر في قطاعات التربية والصحة والخدمات والمياه والكهرباء والتوكيلات الملاحية، ما عمّق هشاشة القدرة المعيشية في محافظتي اللاذقية وطرطوس.

اقتصاد بلا سيولة وأجور تتآكل

المعضلة أعمق من شهور متأخرة، فالأجور الاسمية التي زادت على الورق انخفضت فعلياً أمام موجات الأسعار وانزلاق القدرة الشرائية، حيث تشير متابعات وكالات الأمم المتحدة إلى أن تكلفة الحد الأدنى من سلة الغذاء ومواد المعيشة الأساسية واصلت الصعود خلال 2024 و2025، مدفوعة بشح الوقود واضطراب سلاسل التوريد وتراجع العملة، وفي تقارير برنامج الأغذية العالمي، سجّل متوسط كلفة سلة الحد الأدنى للأغذية مستويات قياسية متتالية منذ 2024، مع استمرار الاتجاه التصاعدي في نشرات 2025، ما يعني أن أي زيادة غير ممولة بموارد حقيقية تتبخر سريعاً مع أسعار السوق.

تتغذى أزمة منطقة الساحل السورية من بيئة وطنية شديدة الهشاشة حيث يقدّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن ملايين السوريين بحاجة إلى المساعدة، في ظل بنى تحتية مائية متضررة واختناقات مزمنة في الطاقة والخدمات العامة، وينعكس هذا السياق العام مباشرة على مدن الساحل، حيث ترتفع تكاليف النقل والتبريد والسلع الأساسية، فتتآكل الأجور الحقيقية حتى مع الزيادات الشكلية، وتفيد موجزات برنامج الأغذية العالمي بأن تقليص المساعدات الغذائية بين 2023 و2024 خفّض تغطية الفئات الأشد فقراً، وهو ما يترك أسر الموظفين ذوي الدخل المحدود أمام فجوة تغذية لا يسدها الراتب.

لا تتعلق القصة بإدارة نقدية فحسب، فحقوق الأجر اللائق والحماية الاجتماعية منصوص عليها في القانون الدولي، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يكرّس الحق في شروط عمل عادلة ومرضية تضمن أجراً كافياً لمعيشة كريمة، والحق في الضمان الاجتماعي، والحق في مستوى معيشي كافٍ، وتوضح التعليقات العامة للجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن على الدول اتخاذ تدابير فعلية، ضمن أقصى ما يتاح من موارد، لضمان هذه الحقوق دون تمييز، بما يشمل انتظام صرف الرواتب وحماية قيمتها الحقيقية من التآكل، وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.

وعود الزيادات وسؤال التمويل

على المستوى الرسمي في سوريا، أُعلنت زيادات كبيرة في أجور القطاع العام عام 2025، بعضها وصل إلى مضاعفة الرواتب الاسمية، لكنّ السؤال الذي يواجه الموظفين في الساحل وسواه: كيف تُموَّل هذه الزيادات؟ من دون مصادر تمويل واقعية، كتحسين الإيرادات العامة وإصلاح دعم الطاقة وتوسيع القاعدة الضريبية بعدالة، تتحول الزيادة إلى كتلة نقدية تطارد سلعاً شحيحة، فتغذي الأسعار وتبتلعها الأسواق.

وأشارت تقارير إعلامية دولية إلى موجة قرارات بزيادة الأجور في 2025، لكنّ استمرار التضخم وضعف المعروض شكّلا كابحاً لقدرتها على تحسين المعيشة.

يسرد معلمو مدارس في ريف اللاذقية أن راتب أغسطس لا يكاد يكفي أسبوعين مع بدء العام الدراسي، إذ تضاعفت كلفة النقل والقرطاسية واللباس المدرسي، وتروي ممرضة في طرطوس أنها تؤجل علاج أسنان طفلتها منذ أشهر، وتستدين ثمن الدواء المزمن لوالدتها، أما موظف الخدمات الفنية في بانياس فيتحدث عن فواتير كهرباء مرتفعة مقابل انقطاعات طويلة، ما يجبره على شراء وقود باهظ لمولدات الحي، وهذه الشهادات المتفرقة ترسم لوحة واحدة: ثَمّ ارتفاع حاد في كلفة الضروريات، مقابل دخل متذبذب التأخر وقليل القيمة الفعلية.

السوق الصغيرة التي تختنق

بحسب خبراء اقتصاد، تضرب أزمة الرواتب الدورة الاقتصادية المحلية، فحين يتأخر صرف الأجور أو تتآكل قيمتها، تتراجع مبيعات البقاليات والأفران ومحال الألبسة، فيؤجل التجار طلبات جديدة، وتتباطأ المدفوعات عبر سلسلة التوريد، وتتعطل فرص العمل الجزئي التي يعتمد عليها كثيرون لتعويض نقص الدخل، والنتيجة مجموعة من الاختناقات ممثلة في سيولة أقل في جيوب الأسر، ومبيعات أقل في أسواق الأحياء، وتباطؤ في نشاط المرافئ والخدمات والخزن والتبريد، وهي قطاعات حيوية لشريط الساحل.

تتعرض المنظومات الصحية والتعليمية والمياه والصرف الصحي لضغط مزدوج، من خلال زيادة الحاجة المجتمعية من جهة، وتراجع التمويل والقدرة التشغيلية من جهة أخرى، وقد حذرت تقارير أممية منذ 2024 من الضرر الواسع في البنية المائية والصحية ومن مخاطر تراجع تمويل الخدمات الأساسية، ما يعمّق الفجوة الصحية والتعليمية.

ماذا تقول المنظمات الحقوقية

ترى منظمات حقوقية دولية أن الحق في الأجر الكافي والضمان الاجتماعي ليس ترفاً بل التزام قانوني، وتؤكد مذكرات تحليلية ومنهجيات من منظمات دولية أنّ الأجر المعيشي والانتظام في الدفع شرطان لازمان لصيانة الكرامة الإنسانية، وأن أي تدابير مالية يجب أن تُصمم بحيث تحمي الفئات الأشد هشاشة من آثار التضخم والضرائب غير المباشرة.

وتدعو المنظمات الإنسانية إلى توسيع شبكات الأمان الاجتماعي والتأمينات الصحية والبدلات العائلية، وإلى إتاحة المساعدات الغذائية والنقدية على أساس الاحتياج، لا الانتماء، وهذه الخطوط تتسق مع التزامات العهد الدولي وتعليقات اللجنة الأممية بشأن العمل والضمان الاجتماعي، وفق موقع "ريف وورلد".

وتبرز في الساحل خصوصية جغرافية واقتصادية، فهي مدن ساحلية تعتمد على موسم سياحي قصير، ومرافئ وخدمات بحرية، وزراعة حمضيات وزيتون، وصناعات غذائية صغيرة، و تتوزع الزيادة النقدية على سلع مستوردة أو منقولة لمسافات طويلة، وتلتهمها كلفة طاقة ونقل مرتفعة، ما يحد من الأثر المضاعف محلياً، ومع اختناقات الكهرباء والماء، تتصاعد كلف التشغيل على المخابز والبرادات والورش الصغيرة، فتنقل عبئها إلى الأسعار التي يواجهها الموظف نفسه، إنها حلقة مفرغة تتطلب تدخلاً مباشراً على تكلفة (الطاقة، النقل العام، المياه، والدواء).

سياسات مطلوبة لكسر الحلقة

يطرح خبراء الاقتصاد الاجتماعي حزمة من التدابير القابلة للتنفيذ في سوريا على مراحل تشمل تسوية فورية ومنتظمة للرواتب المتأخرة، وجدولة مستحقات تموز مع تعويض عن التأخير، لما لذلك من أثر مباشر على ثقة العاملين وقدرتهم على الإنفاق الضروري، مع ربط أي زيادة مستقبلية بآلية تمويل واضحة، تشمل تحصيل إيرادات محلية عادلة، وإغلاق منافذ الهدر في المشتريات العامة، وتوجيه دعم الطاقة إلى النقل والخبز والمياه حصراً.

وكذلك إطلاق سلال دعم عينية موجهة زمنياً إلى موظفي الخدمات الأساسية ذوي الدخل المحدود في الساحل، تتضمن قسائم غذائية ودوائية، على أن تُدار بشفافية وبشراكة مع وكالات الأمم المتحدة لخفض مخاطر التسرب، بجانب تفعيل برامج عمل كثيف العمالة في البلديات الساحلية لإعادة تأهيل شبكات المياه والصرف والنظافة، ما يخلق دخلاً إضافياً مؤقتاً ويحسن البنية الخدمية في الوقت نفسه، إضافة إلى حماية الأجور الحقيقية عبر مراجعة دورية للرواتب مرتبطة بمؤشر أسعار موثوق، وضمانات قانونية لانتظام الدفع، اتساقاً مع الالتزامات الدولية بالعمل اللائق والضمان الاجتماعي. 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية