حياة على المحك.. جرائم "غسل العار" تعود للظهور في سوريا
حياة على المحك.. جرائم "غسل العار" تعود للظهور في سوريا
أعادت جريمة قتل شابة في ريف عفرين شمال حلب، مؤخراً على يد شقيقها بعد تشخيص شعبي خاطئ لانتفاخ في البطن على أنه حمل ملف جرائم غسل العار إلى واجهة النقاش السوري من جديد، لاحقاً تبيّن طبياً أن سبب الانتفاخ أكياس مائية لا علاقة لها بالحمل، لكن الرصاصة سبقت الحقيقة.
وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان وقعت حادثة مشابهة في قرية جلمة بريف عفرين، حين قتل رجل زوجته وأقدم على الانتحار، الانطباع بأن دوامة العنف الأسري والوصم الاجتماعي ما زالت قادرة على الإطاحة بالحياة قبل أن تتاح للوقائع فرصة الظهور، وخلال الأيام الأخيرة وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان واقعة عفرين وتفاصيلها، لتصبح نموذجاً على اتحاد الجهل الطبي مع ثقافة العنف في مأساة واحدة.
العنف القائم على النوع الاجتماعي في سوريا ليس طارئاً على الحرب وحدها، فقبل عام 2011 كانت أنماط العنف الأسري والزواج القسري وجرائم الشرف حاضرة، لكن الصراع المسلح والتشرذم الإداري ونزوح الملايين ضاعفت وتيرتها وغيّرت طبيعتها.
تقارير أممية تؤكد أن النساء والفتيات النازحات واللاجئات هن الأكثر عرضة لأشكال متعددة من العنف، وأن وصم الضحايا وضعف قنوات الإبلاغ يعمقان فجوة الأرقام ويجعلان ما يُسجل يقل كثيراً عما يحدث فعلاً على الأرض وفق مفوضية حقوق الإنسان.
القانون بين النص والتطبيق
شهد الإطار القانوني السوري تعديلات مهمة حين أُلغي العذر المخفف لما يسمى بجرائم الشرف بإلغاء المادة 548 عام 2020، لتُعامل تلك الجرائم كغيرها من جرائم القتل.
غير أن أثر التعديل لم يُترجم بعد إلى رادع فعلي في كل الجغرافيا السورية، بفعل تعدد سلطات الأمر الواقع، وتفاوت قدرات الشرطة والقضاء، والتأثير الاجتماعي للوساطات العائلية.
التقارير الأوروبية المتخصصة في إرشادات اللجوء تشير بدورها إلى أن النساء اللواتي يُنظر إليهن باعتبارهن انتهكن شرف العائلة ما زلن يواجهن خطراً جدياً، وأن عوامل الإفلات من العقاب لا تزال قائمة في ممارسات محلية شتى وفق مؤسسة "European Union Agency for Asylum"
وتكشف حادثة ريف عفرين المحددة عن ثلاثة مستويات للتقصير، أولها هشاشة الوصول إلى الرعاية الصحية المؤهلة واستبدالها بممارسات شعبية أعادت إنتاج الضرر، وثانيها قابلية العنف المسلح للتسرب إلى المنزل حين يمتلك أفراد الأسرة سلاحاً نارياً في بيئة أمنية منفلتة، وثالثها سيادة منطق الوصم على حساب المسار القانوني، حيث تسبق الإدانة الاجتماعية الفحص الطبي والتحقيق الجنائي، وما حدث ليس استثناءً بل حلقة في سلسلة وثّقتها منظمات حقوقية سورية خلال الأعوام الأخيرة، بتنوع مناطق السيطرة من درعا والسويداء إلى شمالي حلب وإدلب
أرقام ودلالات
على الرغم من نقص قواعد البيانات الوطنية، توفر مصادر أممية ومحلية مؤشرات ذات دلالة، ويذكر صندوق الأمم المتحدة للسكان أن الاكتظاظ في الملاجئ ونقص الخدمات الأساسية يرفعان مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، فيما وصلت تدخلاته خلال أسابيع شتاء 2024 و2025 إلى عشرات آلاف النساء والفتيات بخدمات الصحة الجنسية والإنجابية والحماية.
كما تبين مذكرات السياسات والملخصات الصادرة في 2025 أن العنف القائم على النوع الاجتماعي يتفاقم مع تدهور المعيشة وتعطل شبكات الحماية، أما الشبكة السورية لحقوق الإنسان فتشير في تقرير سنوي إلى آلاف الحوادث الموثقة من العنف الجنسي ضد الإناث منذ 2011، مع تأكيد أن معظم الجرائم غير مُبلغ عنها بسبب الخوف والوصمة، وهذه المؤشرات تعني أن جرائم غسل العار جزء من منظومة عنف واسعة لا يمكن فصلها عن اقتصاد الحرب والتفكك المؤسسي.
وينظر القانون الدولي إلى جرائم قتل النساء بدافع الشرف على أنها جرائم قتل لا عذر لها ولا تبرير. اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة تلزم الدول باتخاذ تدابير للحماية والمنع والمساءلة، وتكرر بيانات ومداخلات أممية بشأن سوريا التحذير من استمرار جرائم الشرف رغم بعض الإصلاحات القانونية، وتدعو إلى إنفاذ الملاحقة الجنائية وحماية الشهود وتطوير خدمات الإيواء والاستشارة القانونية والنفسية، كما تشدد آليات الأمم المتحدة على أن أي تهاون مجتمعي أو مؤسسي مع دوافع الشرف يرسخ الإفلات من العقاب ويشجع التكرار.
مواقف المنظمات الحقوقية
تؤكد منظمات سورية ودولية أن حماية النساء لن تتحقق بالنصوص وحدها، ففي يونيو 2025 دعت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” السلطات الانتقالية وسلطات الأمر الواقع إلى تجريم واضح ومباشر لجرائم الشرف وإغلاق مسارات الصلح العائلي التي تحوّل الجرائم إلى خلافات خاصة، مع إنشاء وحدات متخصصة للتحقيق تتبع معايير الطب الشرعي المعاصرة، وإتاحة ملاذات آمنة وخطوط إبلاغ موثوقة.
وتلفت المنظمة إلى تردي منظومات الحماية المدنية وضعف التدريب في الأجهزة الشرطية وتضارب المرجعيات القانونية بين مناطق السيطرة، ما يسمح بتسرب الضغوط الاجتماعية إلى قاعات التحقيق والقضاء.
تُجمع التقارير الأممية وبيانات المنظمات المحلية على أن وصمة الضحية تشكل العائق الأشد أمام الإبلاغ المبكر، إذ قد تواجه الناجيات تهديدات مباشرة من الأسرة أو المحيط، ويجري تصوير النجدة القانونية على أنها تهديد لسمعة العائلة، وفي حالات كثيرة تنتهي الشكاوى بتسويات عشائرية تلتف على العدالة، أو يتم تقديم الانتحار رواية رسمية لإخفاء قتل متعمد، كما أن تفاوت قدرات الطب الشرعي وضعف شبكات الإحالة يبدد الأدلة في الجرائم الحساسة ويمنح الجناة هامشاً واسعاً للنجاة، وتشير بوابات بيانات الأمم المتحدة إلى فجوات كبيرة في المؤشرات الجندرية الخاصة بالعنف، ما يضاعف صعوبة التخطيط لسياسات مبنية على الأدلة.
مسارات الاستجابة الممكنة
تطرح خبرات السياقات المشابهة لحادث عفرين الأخير حزمة تدخلات عملية متدرجة، وفق منظمات حقوقية، فعلى المستوى الوقائي، حملات توعية مجتمعية يقودها رجال دين وقادة محليون ونشطاء، تركز على نزع الشرعية القيمية عن مفهوم غسل العار وإعادة تعريف الشرف باعتباره احترام الحياة وسيادة القانون.
وفي المستوى الخدمي من خلال توسيع نطاق الملاجئ الآمنة وخطوط المساعدة وتوفير الاستشارة القانونية والنفسية، وتوحيد بروتوكولات التعامل الشرطي مع الجرائم العائلية الحساسة، وتدريب الكوادر الصحية على الفرز والإحالة المبكرة لتقليل دور الممارسات الشعبية غير المؤهلة.
وفي المستوى العدلي، من خلال إنشاء نيابات متخصصة في العنف الأسري، وإلزامية التحقيق الجنائي في جميع حالات وفاة النساء ضمن ظروف مريبة، مع حماية المبلّغين والشهود وتمكين الضحايا من أوامر حماية عاجلة، وفي المستوى التشريعي عبر استكمال سد الثغرات بتجريم صريح لأي تبرير قائم على الشرف ورفض أي تسوية تلغي الحق العام.
أثر الحرب والسلاح المنفلت
وفقاً لموقع "ريليف ويب" تضاعف الحرب مخاطر العنف المنزلي والقتل بدافع الشرف عبر ثلاثة مسارات متداخلة، أولها أن انتشار السلاح الخفيف يرفع احتمالات القتل الفوري في الخلافات الأسرية، وثانيها أن التفكك الاقتصادي يعمق التوترات المنزلية ويزيد الاعتماد على الأعراف الأبوية المتشددة، وكما أن تهتك مؤسسات العدالة يعطل الردع ويخفض تكلفة الجريمة في نظر الجناة، وفي حادثة عفرين نفسها، تفاعلت هذه العوامل ثلاثتها في ساعات قليلة، حتى غابت فرصة الفحص الطبي الدقيق والتدخل الأمني الرادع.
توثيق الانتهاكات في السنوات الأخيرة أظهر أن النساء والفتيات يدفعن ثمناً أعلى لانهيار منظومات الحماية، فيما تتسع الجغرافيا المعرضة للعنف لتشمل مخيمات النزوح والقرى الزراعية والمدن المزدحمة على السواء.
عودة جرائم غسل العار إلى واجهة المشهد السوري ليست موجة معزولة بل مؤشر على هشاشة البنية الوقائية والحامية في آن واحد، وقد أزال تعديل المادة 548 الغطاء القانوني الصريح لكنه لم يلغ شبكة الأعراف التي تمنح الجاني إحساساً بشرعية اجتماعية، فيما تشهد تقارير أممية ومنظمات حقوقية محلية على استمرار الجرائم وتعدد أشكالها من القتل المباشر إلى الانتحار القسري والتهجير الداخلي للضحايا المحتملات.
وفي ظل اتساع فجوات البيانات وغياب منظومات شكاوى آمنة وموثوقة، يستمر العنف في مناطق الظل بعيداً عن رادار العدالة والإعلام. ما من مخرج مستدام من الحلقة دون اقتران النصوص القانونية بتطبيق يقظ ومحمي من التدخلات العائلية والعشائرية، ومن دون بنية خدمات متاحة وفي متناول النساء والفتيات، وخاصة في مناطق النزاع والتشظي الإداري.
وقد أُلغي العذر المخفف في جرائم الشرف في سوريا عام 2020، غير أن توزع السيطرة وتباين أنظمة إنفاذ القانون بين مناطق الحكومة والمعارضة والإدارة الذاتية قد عوّق تطبيقاً موحداً، وتؤكد وثائق الأمم المتحدة الصادرة عامي 2023 و2025 استمرار العنف القائم على النوع الاجتماعي واتساع نطاقه، مع إشارات صريحة إلى بقاء جرائم الشرف رغم الإصلاحات.
توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان يشير إلى آلاف الانتهاكات الجنسية ضد الإناث منذ 2011، فيما تعلن برامج الأمم المتحدة للسكان عن تدخلات متصاعدة لمواجهة العنف وتداعياته الصحية والاجتماعية، لكن هذه الجهود تصطدم ببيئة أمنية مضطربة وموارد محدودة وفجوات بيانات تعوّق التخطيط الممنهج. أخيراً، تشدد منظمات سورية مستقلة على ضرورة إغلاق مسارات الوساطة التي تحول جرائم القتل إلى نزاعات عائلية، وعلى تأسيس وحدات تحقيق متخصصة وتوفير حماية قانونية فاعلة للنساء المهددات، بما يشمل أوامر الحماية والملاجئ والتمويل المستدام لخدمات الدعم.