من ميلوني إلى ملايين النساء.. كيف تتحول التكنولوجيا إلى أداة قمع عالمي ضد المرأة؟
من ميلوني إلى ملايين النساء.. كيف تتحول التكنولوجيا إلى أداة قمع عالمي ضد المرأة؟
لم تعد الهجمات الرقمية التي تستهدف النساء محصورة في التنمر أو التهديد، بل تطورت إلى ما هو أبعد، حيث باتت الصور والفيديوهات الحميمية المزيفة أو المسربة من دون موافقة تُستخدم كأدوات انتقامية أو إهانة جماعية.
وتتصدر "الإباحية الانتقامية" باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي أو ما يُعرف بـ"التزييف العميق" مشهد أشكال العنف الرقمي العالمي اليوم، بعد أن حوّلت حياة آلاف النساء إلى معاناة صامتة، فيما تكافح التشريعات لمجاراة سرعة التكنولوجيا.
آخر الضحايا البارزات كانت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، التي ظهرت صورها المعدلة عبر منصات مشبوهة، في واحدة من أبرز الفضائح الرقمية الأوروبية التي هزت الرأي العام الإيطالي وأعادت الملف إلى واجهة النقاش السياسي والاجتماعي بحسب ما أوردته شبكة “يورونيوز” يوم الاثنين.
ظاهرة عالمية متنامية
من إيطاليا إلى كوريا الجنوبية، مروراً بالولايات المتحدة وإسبانيا، تتشابه الممارسات وإن اختلفت السياقات. مجموعات سرية على تطبيقات مثل تليغرام وواتساب أو منتديات مغلقة تستهدف النساء بنشر صور حقيقية أو مزيفة.
في المملكة المتحدة وحدها، تعامل خط المساعدة الخاص بالإباحية الانتقامية منذ تأسيسه عام 2015 مع أكثر من 22 ألف حالة في عام 2024 فقط، نصفها تقريباً متعلق بصور مفبركة عبر الذكاء الاصطناعي.
وفي إسبانيا، كشفت دراسة بحثية أن مجموعات مثل "هسباسيكسي" على تليغرام طورت "كراهية النساء التعاونية" من خلال تبادل الصور غير المرخصة، وهو ما دفع السلطات إلى إغلاق إحدى المجموعات التي ضمت نحو 600 مشارك وتحديد 27 ضحية على الأقل.
أما في كوريا الجنوبية فقد ارتفعت البلاغات عن التزييف الجنسي من 156 حالة في عام 2021 إلى أكثر من 800 حالة في 2024، رغم القوانين الصارمة، وفي البرتغال، تم ضبط مجموعة تضم نحو 70 ألف عضو يدفعون رسوماً مالية للوصول إلى صور النساء، حتى إن قسماً منها خُصص لصور ملتقطة خلسة في الأماكن العامة.
رغم أن التطور التقني جعل الظاهرة أكثر خطورة وانتشاراً، فإن جذورها تعود إلى ما قبل عقد ونصف العقد، ففي عام 2010 أطلق الأمريكي هانتر مور منتدى "هل من أحد مستيقظ" لنشر صور شخصية من قبل شركاء سابقين بدافع الانتقام، ما شكّل شرارة أولى لنمط جديد من العنف الرقمي، ومنذ ذلك الوقت، انتشرت ظاهرة "اللقطات الزاحفة" على مواقع مثل ريديت، حيث يتم تبادل الصور الملتقطة سراً أو المسربة دون إذن، وصولاً إلى عصر الذكاء الاصطناعي الذي ضاعف الأخطار.
طرق عمل المجموعات
هذه الشبكات لا تعمل بعشوائية، بل وفق قواعد صارمة.. بعض المجموعات لا تقبل إلا صور الزوجات أو الشريكات الحاليات، بينما تركز أخرى على التلاعب بالصور عبر الذكاء الاصطناعي وتكافئ من يبدع في "إنتاج" صور أكثر إقناعاً، وغالباً ما يُفرض على المشاركين تبادل محتوى دوري حتى لا يُطردوا من المجموعة، ما يحول كل عضو إلى شريك نشط في الانتهاك.
ورغم أن أغلب الدول الأوروبية أقرت عقوبات مشددة، فإن الفروقات كبيرة في التطبيق والفعالية، ففي إيطاليا، تصل العقوبة إلى السجن ست سنوات لنشر صور جنسية دون موافقة، وفي فرنسا تفرض عقوبة بالسجن عامين وغرامة تصل إلى 60 ألف يورو. أما ألمانيا فتحدد السقف بعامين مع إمكانية رفع دعاوى مدنية لإزالة المحتوى.
وفي المملكة المتحدة، يعاقب قانون السلامة على الإنترنت لعام 2023 على نشر صور التزييف العميق بالسجن حتى عامين، بينما تنص القوانين في البرتغال ومالطا على عقوبة مشابهة، وتذهب اليونان إلى تشديد العقوبات باعتبارها شكلاً من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي.
الولايات المتحدة أقرت في عام 2025 "قانون إزالة المحتوى غير المرغوب فيه Take It Down Act"، الذي يحظر توزيع الصور الجنسية سواء كانت حقيقية أو مولدة بالذكاء الاصطناعي دون إذن، وهو من أبرز التشريعات الفيدرالية التي اعترفت بتهديد هذه الظاهرة.
المواقف الحقوقية والأممية
منظمات حقوقية مثل "StopFisha" في فرنسا و"Siamo Pari" في إيطاليا تعمل بشكل مباشر على مساعدة الضحايا والتبليغ عن المجموعات، وعلى الصعيد الأممي، أدرجت الأمم المتحدة "الإباحية الانتقامية" ضمن أشكال العنف الرقمي القائم على النوع الاجتماعي، مطالبة الدول الأعضاء بتعزيز التشريعات وتطوير آليات إزالة سريعة للمحتوى المسيء.
المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد المرأة وصفت في تقريرها الأخير الظاهرة بأنها "وباء صامت" يتسبب بوصم اجتماعي وعزلة نفسية للضحايا، داعية شركات التكنولوجيا إلى تحمل مسؤولية أكبر عبر أدوات استباقية لرصد المحتوى المسيء قبل انتشاره.
تأثير هذه الممارسات لا يقف عند حدود الإساءة الرقمية، بل يتعداها إلى انهيارات نفسية للضحايا، فقدان الوظائف، وتدمير العلاقات الأسرية والاجتماعية، وصولاً إلى حالات انتحار موثقة في أوروبا وآسيا، وتشير دراسات أوروبية إلى أن نحو 90 في المئة من ضحايا النشر غير التوافقي للصور هم من النساء، ما يعكس الطابع الجندري الواضح للأزمة.
معركة في مواجهة التقنية
ما يوحد بين التجارب المختلفة هو الفارق الكبير بين سرعة انتشار المواد عبر الإنترنت وبطء الأنظمة القانونية والقضائية في الاستجابة. وفي الوقت الذي يمكن فيه لصورة مزيفة أن تنتشر عالمياً خلال دقائق، يستغرق حذفها أياماً أو أسابيع، وأحياناً لا تُحذف مطلقاً.
الفضيحة الأخيرة في إيطاليا أبرزت أن المواجهة لا تقتصر على إصدار القوانين، بل تتطلب تغييراً ثقافياً يرفض التطبيع مع العنف الرقمي، ويؤكد الخبراء أن التحدي عالمي ويحتاج إلى تعاون دولي بين الحكومات، والمنظمات الحقوقية، وشركات التكنولوجيا، لضمان حماية النساء من سلاح رقمي يتطور باستمرار.
بينما يكشف العصر الرقمي عن إمكانات هائلة للتواصل والتعبير، فإنه يكشف أيضاً عن هشاشة حماية النساء أمام أدوات جديدة من الإذلال والإخضاع، وقد أصبحت ظاهرة "الإباحية الانتقامية" بالتزييف العميق نموذجاً صارخاً لكيفية تحول التكنولوجيا إلى أداة قمعية إذا تُركت بلا ضوابط، فمن ميلوني في إيطاليا إلى نساء مجهولات في قرى آسيا وأمريكا اللاتينية، يعد القاسم المشترك هو الحاجة الماسة إلى تشريعات أسرع، وإنفاذ أقوى، وثقافة عالمية تحترم الكرامة الإنسانية فوق أي محتوى رقمي.