أطفال مجندون ونساء مستعبدات.. كيف تحولت موارد الكونغو إلى وقود لصراع دموي؟
أطفال مجندون ونساء مستعبدات.. كيف تحولت موارد الكونغو إلى وقود لصراع دموي؟
كشف تحقيق أممي حديث عن صورة قاتمة للصراع الدائر في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، مؤكداً أن جميع الأطراف الضالعة في النزاع ارتكبت انتهاكات جسيمة قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وقد وثق التقرير، الصادر عن بعثة تقصي الحقائق التابعة لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، سلسلة من الفظائع التي ارتكبتها حركة "إم23" المدعومة من رواندا، إلى جانب القوات المسلحة الكونغولية والجماعات المسلحة الموالية لها، في نزاع يتواصل منذ عقود ويغذيه مزيج قاتل من المصالح السياسية والاقتصادية والعرقية.
تؤكد البعثة الأممية وفق تقرير نشره موقع اخبار الأمم المتحدة يوم الجمعة أن نطاق الجرائم المرتكبة يعكس خطورة الأوضاع على الأرض، حيث فشل جميع الأطراف في حماية المدنيين، وارتُكبت أفعال مثل القتل العمد، والتعذيب، والاغتصاب، والتجنيد القسري للأطفال، إضافة إلى أعمال نهب واسعة النطاق. وهذه الوقائع، وفق التقرير، تشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني وللقانون الدولي لحقوق الإنسان.
عنف بلا انقطاع
منذ أواخر عام 2021، عادت حركة "إم23" إلى الساحة المسلحة، وسيطرت على مساحات واسعة من شمال وجنوب كيفو، وعلى الرغم من توقيع اتفاقات سلام في واشنطن والدوحة خلال عام 2024، استمر العنف بلا انقطاع.
وأشار التقرير إلى أن قوات الحركة نفذت حملات ترهيب واسعة شملت الإعدامات التعسفية والعبودية الجنسية، في وقت تُتهم فيه رواندا ليس فقط بدعم الحركة، بل بالمشاركة المباشرة في انتهاكات على الأراضي الكونغولية، بما في ذلك عبر معسكرات تدريب تابعة لـ"إم23".
من جهة أخرى، حمّل التقرير المسؤولية أيضاً للجيش الكونغولي وللميليشيات الموالية له مثل قوات "وازاليندو" التي جرى حشدها وتسليحها من قِبل كينشاسا، إذ وثّق محققو الأمم المتحدة حالات إعدام متعمدة لمدنيين، وجرائم عنف جنسي، وعمليات نهب أثناء انسحاب القوات في مطلع عام 2025، وهذه الانتهاكات، بحسب التحقيق، تُظهر أن السلطات الكونغولية مسؤولة عن تصرفات عناصرها والقوى التابعة لها باعتبارها واقعة تحت إشرافها أو سيطرتها المباشرة.
تداعيات إنسانية
الجانب الإنساني للأزمة يظل الأكثر فداحة، فبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، يعيش أكثر من 7 ملايين شخص في حالة نزوح داخلي داخل الكونغو، نصفهم تقريباً في شرق البلاد، وتشير تقارير إلى أن ما يزيد عن 5 ملايين طفل خارج المدارس نتيجة النزاع، في حين تتزايد حالات العنف الجنسي الممنهج التي تستهدف النساء والفتيات بوصفها أداة حرب، وقد حذرت منظمة أطباء بلا حدود مطلع العام من انهيار الخدمات الصحية في إقليم شمال كيفو، حيث المستشفيات مكتظة بالجرحى وتعاني نقصاً حاداً في الأدوية والمستلزمات.
ردود الفعل الدولية على التقرير جاءت متباينة، فقد وصفت منظمة العفو الدولية ما يجري في الكونغو الديموقراطية بأنه "إفلات مزمن من العقاب"، داعية مجلس الأمن إلى فرض عقوبات على القيادات العسكرية والسياسية المسؤولة عن الجرائم. وهيومن رايتس ووتش طالبت بفتح تحقيق مستقل من المحكمة الجنائية الدولية، مشيرة إلى أن الكونغو طرف في نظام روما الأساسي، ما يلزمها بالتعاون مع المحكمة في ملاحقة المسؤولين عن جرائم الحرب، أما الأمم المتحدة، فقد شددت على أن احترام القانون الدولي الإنساني والتوقف عن دعم الجماعات المسلحة يشكلان شرطاً أساسياً لوقف دوامة العنف.
القانون الدولي يضع مسؤوليات واضحة في مثل هذه النزاعات، فالمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف تحظر القتل، والمعاملة القاسية، وأخذ الرهائن، والاعتداء على الكرامة الإنسانية في النزاعات غير الدولية. كما يجرم نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جرائم القتل والتعذيب والاستعباد الجنسي وتجنيد الأطفال. لكن المشكلة، كما يوضح خبراء حقوقيون، تكمن في غياب آليات فاعلة لإنفاذ هذه الالتزامات في بيئة إقليمية معقدة حيث تتداخل المصالح الاقتصادية والسياسية، ويضعف الالتزام الدولي.
خلف هذه الانتهاكات، يقف صراع طويل على موارد طبيعية هائلة من الكولتان والذهب والماس، فمنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحولت ثروات الكونغو إلى لعنة أذكت الصراعات المسلحة، وجعلت من شرق البلاد ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية، وسعت رواندا التي واجهت تداعيات الإبادة الجماعية عام 1994، باستمرار إلى فرض نفوذها في شرق الكونغو بحجة مطاردة الجماعات المسلحة الرواندية المتمركزة هناك، لكن تقارير أممية متكررة أثبتت أن السيطرة على الموارد تمثل دافعاً مركزياً في استمرار النزاع.
اليوم، يقف المجتمع الدولي أمام اختبار صعب، فالتقرير الأممي الأخير لا يترك مجالاً للشك في أن الانتهاكات واسعة النطاق تتطلب تحركاً عاجلاً، سواء من خلال تعزيز جهود الوساطة السياسية أو عبر إجراءات قضائية دولية، ومع ذلك، يخشى المراقبون أن يستمر الصمت أو الاكتفاء بالإدانات اللفظية في حين يدفع المدنيون في الكونغو الثمن الأكبر من حياتهم وكرامتهم.
تعود جذور النزاع في شرق الكونغو إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي عندما أدت تداعيات الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 إلى فرار مقاتلين وميليشيات إلى الأراضي الكونغولية، وهذا التدفق فجّر سلسلة من الحروب التي عُرفت بـ"الحرب العالمية الإفريقية" بين عامي 1996 و2003، والتي شاركت فيها تسع دول إفريقية وأسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص، معظمهم بسبب الجوع والمرض، ورغم توقيع اتفاقات سلام متعددة منذ ذلك الحين، ظل شرق الكونغو بؤرة صراع بسبب وفرة المعادن الاستراتيجية وضعف الدولة المركزية، ما جعله مسرحاً متجدداً للعنف والانتهاكات.