من أيقونة الهوية إلى أداة إقصاء.. الأعلام الوطنية باسكتلندا تتحول لسلاح ضد اللاجئين
صليب القديس أندرو بين الترحيب والكراهية
في قلب اسكتلندا، من فالكيرك إلى أبردين، يشتعل جدل متصاعد حول معنى العلم الوطني ودلالاته، بعدما تحوّل "شعار سالتاير" الأزرق والأبيض من رمزٍ للوحدة والاستقلال إلى أداة في احتجاجات مناهضة للاجئين.
لم تعد القضية مجرد جدل ثقافي أو سياسي، بل تحوّلت إلى ملف حقوقي يرتبط مباشرة بمسألة حماية اللاجئين وصون كرامتهم، في مواجهة خطاب متنامٍ يسعى لربط الهوية الوطنية بالرفض والإقصاء.
بحسب تقرير نشرته "الغارديان"، اليوم الأحد، بدأت شرارة الأزمة عندما قررت الناشطة المجتمعية محمودة سيدين وزوجها شراء الأعلام الوطنية ورفعها أمام فندق كلادهان، الذي يستضيف نحو 90 طالب لجوء.
بالنسبة لها، كان الهدف "استعادة العلم"، بينما بالنسبة للسياسيين القوميين، وعلى رأسهم الوزير الأول جون سويني، كان الأمر محاولة واضحة لاختطاف رمز وطني يُفترض أنه علامة ترحيب وتضامن.
رسائل مشبعة بالرمزية
تقرير الصحيفة البريطانية أبرز أن الأعلام لم تعد مجرد قطعة قماش على أعمدة الإنارة، بل تحوّلت إلى رسائل سياسية مشبعة بالرمزية، بعضهم رأى فيها دعماً للاستقلال، والبعض الآخر عدّها جزءاً من نشاط مناهض للهجرة.
ومع ذلك، كانت الرسالة الحقوقية واضحة في خطاب جون سويني: "علم الصليب ملك لشعب اسكتلندا، ولطالما اعتُبر علم ترحيب وملاذ آمن، واللاجئون مرحب بهم هنا".
توضح "الغارديان" أن احتجاجات الأعلام لم تأتِ من فراغ، بل ارتبطت بتدهور الخدمات العامة وارتفاع تكاليف المعيشة، وهي عوامل اجتماعية واقتصادية غذّت خطاب الغضب الشعبي، إلا أن تحويل هذه المعاناة إلى رفض للاجئين يُثير إشكاليات حقوقية حادة.
فبحسب التحقيقات، استغلّت جماعات يمينية متطرفة مثل حزب الوطن الأم وبريطانيا أولاً هذه الأجواء لزرع خطاب عدائي يربط بين اللاجئين والجريمة أو انعدام الأمن.
وفي المقابل، تشدد مجموعات مدافعة عن اللاجئين على أن هذا "الاستيلاء" على العلم يخلق بيئة معادية تتعارض مع التزامات اسكتلندا والمملكة المتحدة في إطار المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، خصوصاً حق اللجوء والحماية من التمييز.
تهديدات للعمال
في الوقت نفسه، تكشف صحيفة "ذا سكوتيش صن"، وهي النسخة الاسكتلندية من صحيفة "ذا صن"، عن تطور آخر بالغ الدلالة: بعض المجالس المحلية، ومنها مجلس أبردينشاير، اضطرت إلى وقف عمليات إزالة الأعلام من أعمدة الإنارة بعد تعرض العمال المكلفين بالتركيب أو الإزالة لتهديدات مباشرة، هذا المشهد يعكس تصاعد التوتر الاجتماعي إلى مستوى من الترهيب يهدد الحق في بيئة آمنة للعاملين، كما يضع السلطات المحلية في مواجهة مزدوجة بين فرض القانون وضمان سلامة موظفيها.
ونقلت الصحيفة عن المجلس قوله: "من غير المقبول إطلاقًا تهديد أي من موظفينا أثناء أداء عملهم، وسنطلب من الشرطة التدخل"، هذه الجملة تختصر التداخل بين الحقوق العمالية والحقوق المجتمعية، في لحظة تتشابك فيها قضية اللاجئين مع حرية التعبير وضمان الأمن العام.
وأشار تقرير "ذا سكوتيش صن" أيضاً إلى أن احتجاجات مناهضة للاجئين لم تمر دون رد، إذ نظمت مجموعة "انهضوا في وجه العنصرية في اسكتلندا" بالتعاون مع مجلس نقابات فالكيرك وقوى محلية مظاهرات مضادة أمام فندق كلادهان.
وحمل المتظاهرون لافتات وأطلقوا هتافات مثل "اللاجئون مرحب بهم هنا" و"هكذا يبدو المجتمع"، في مشهد جسّد بوضوح التباين بين خطاب الإقصاء وخطاب التضامن.
وتعكس هذه الاحتجاجات المضادة ممارسة مباشرة للحق في التجمع السلمي والتعبير عن دعم المهاجرين، وهو ما يُعيد التوازن إلى المشهد العام الذي حاولت الجماعات المتطرفة اختطافه عبر الأعلام.
تصعيد رقمي
بحسب "ذا سكوتيش صن"، لم يقتصر الأمر على الشوارع، حيث نظمت حركة تُعرف باسم "عملية رفع الألوان" نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، داعية إلى "استعادة الوطنية نهائيًا"، هذه الحملات الرقمية عززت الوجود المادي للأعلام على الطرق والدوارات، لكنها أيضاً أظهرت كيف أصبح الفضاء الإلكتروني أداة لتعبئة جماعية تستهدف اللاجئين بشكل غير مباشر، ما يطرح أسئلة عن المسؤولية الرقمية وضرورة التصدي لخطابات الكراهية على المنصات الاجتماعية.
وتشير "الغارديان" إلى أن الوزير الأول جون سويني أرجع تصاعد الغضب الشعبي إلى نتائج التقشف الاقتصادي وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قائلاً إن "عددًا كبيرًا جدًا من الناس يُكافحون من أجل البقاء"، لكنه في الوقت نفسه حذّر من اللغة "المُرعبة للغاية" التي يستخدمها سياسيون في وستمنستر، والتي تُغذي الدعوات إلى "الترحيل الجماعي" والانسحاب من المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.
يضع هذا التصريح المسألة في إطار حقوقي أكبر: فالخطر ليس في رفع الأعلام بحد ذاته، بل في محاولة تحويلها إلى ذريعة لتقويض التزامات دولية راسخة، بما في ذلك حماية اللاجئين واحترام كرامة الإنسان.
وتكشف التقارير من "الغارديان" و"ذا سكوتيش صن" عن أزمة عميقة في كيفية استخدام الرموز الوطنية، فبينما يراها البعض وسيلة للتعبير عن الغضب المشروع من تدهور الظروف الاجتماعية، تتحول في يد آخرين إلى أداة إقصاء ووصم، وفي كل الحالات، يبقى الحق في الأمان، والحق في التعبير، والحق في اللجوء، في قلب هذا الجدل.
صراع حقوقي وسياسي
ما يحدث اليوم في شوارع فالكيرك وغلاسكو وأبردين ليس مجرد خلاف حول أعلام أو رموز، بل هو صراع حقوقي وسياسي على هوية المجتمع الاسكتلندي وحدوده القيمية، قد تحولت"استعادة العلم" إلى شعار يستغل مشاعر الغضب الشعبي لتوجيهها ضد اللاجئين
ومن زاوية حقوقية، فإن القضية تُلخّص المعضلة الأوسع في أوروبا اليوم: كيف نوازن بين حق الناس في التعبير والاحتجاج، وبين الالتزامات الدولية تجاه اللاجئين وحقوقهم الأساسية؟ وكيف نحمي الرموز الوطنية من أن تتحول إلى أدوات إقصاء بدل أن تكون جسوراً للترحيب والتضامن؟