صراع مفتوح مع المنظمات الحقوقية.. هل تتحول اليونان إلى مختبر لتقييد الحريات في أوروبا؟

صراع مفتوح مع المنظمات الحقوقية.. هل تتحول اليونان إلى مختبر لتقييد الحريات في أوروبا؟
اليونان وتبعات قضية الهجرة

تشهد اليونان، بوصفها بوابة رئيسية للاتحاد الأوروبي أمام تدفقات المهاجرين وطالبي اللجوء، أزمة متشابكة لم تعد محصورة في إدارة الحدود أو سياسات الاستقبال، بل امتدت إلى البنية الديمقراطية نفسها، فالتدابير الحكومية الأخيرة التي أعلنها وزير الهجرة ثانوس بليفريس، تهدد بتقييد المجتمع المدني وإسكات المنظمات غير الحكومية، بحسب ما أوردته "هيومن رايتس وووتش" الثلاثاء، وهو ما أثار انتقادات حقوقية واسعة على المستويين الأوروبي والدولي، القضية لم تعد مرتبطة بالهجرة وحدها، بل تتعلق بمساحة الحريات والقدرة على مراقبة السلطة في دولة عضو بالاتحاد الأوروبي.

جذور الأزمة: الهجرة ذريعة للقيود

تاريخياً، كانت اليونان خط المواجهة الأمامي للأزمات الإنسانية المرتبطة بالهجرة، خاصة منذ عام 2015 حين دخل أكثر من مليون شخص عبر بحر إيجه متجهين إلى أوروبا، وترافق ذلك مع ضغوط سياسية داخلية وصعود خطاب قومي اعتبر المنظمات الإنسانية والحقوقية "متساهلة" مع المهاجرين، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في العقد الأخير، باتت الهجرة مادة سياسية تُستخدم لتبرير إجراءات استثنائية ضد المجتمع المدني.

قوانين متشددة وإجراءات عقابية

في سبتمبر الماضي، أقرت الحكومة قانوناً يجرّم "الإقامة غير القانونية" للمهاجرين ويعاقب طالبي اللجوء المرفوضين بالسجن لفترات تراوح بين سنتين وخمس سنوات، سبق ذلك في يوليو وقف قبول طلبات اللجوء من أشخاص وصلوا عبر القوارب من شمال إفريقيا، وهو إجراء اعتبرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان انتهاكاً للالتزامات الأوروبية، ما أدى إلى تعليق مؤقت للسياسة بضغط من منظمات المجتمع المدني.

بدلاً من مراجعة سياستها، اتجهت الحكومة اليونانية نحو تشديد الخناق على المنظمات غير الحكومية، معلنة عن نيتها في شطب أي منظمة تطعن قانونياً أو تعترض على قراراتها، ويأتي ذلك في سياق إطار تنظيمي تم إقراره عام 2020، عدّته تقارير مجلس أوروبا وهيئات الأمم المتحدة أداة مقيدة للحق في حرية تكوين الجمعيات.

ردود فعل دولية وحقوقية

أثارت هذه الإجراءات انتقادات واسعة. فقد وصفت ماري لولور، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالمدافعين عن حقوق الإنسان، الوضع في تقريرها لعام 2023 بأنه "مناخ عدائي صادم"، حيث يواجه المدافعون عن حقوق الإنسان في اليونان حملات تشهير، تهديدات، وتوظيفاً مسيئاً للقانون الجنائي.

المفوضية الأوروبية، في تقاريرها حول سيادة القانون، أشارت أيضاً إلى تضييق المساحة المدنية، مؤكدة أن المنظمات العاملة مع المهاجرين تتعرض لقيود إدارية ومالية تجعل عملها شبه مستحيل، أما منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، فقد اعتبرت أن الإجراءات اليونانية تتعارض مع التزامات الاتحاد الأوروبي ومع العهود الدولية لحقوق الإنسان.

البعد الأوروبي: اختبار للنظام المشترك

بوصفها عضواً في الاتحاد الأوروبي، فإن سياسات اليونان ليست شأناً داخلياً محضاً، بل تمثل اختباراً للنظام الأوروبي المشترك للهجرة واللجوء، والتزمت المفوضية الأوروبية مراراً بالدفاع عن قيم الحرية وحقوق الإنسان، لكن استمرار القيود اليونانية دون محاسبة يثير تساؤلات حول فعالية آليات الرقابة الأوروبية، وقد حذرت تقارير البرلمان الأوروبي من أن التساهل مع الانتهاكات في دولة عضو قد يخلق سابقة خطِرة لبقية الدول.

أثر مباشر في الديمقراطية والمجتمع المدني

المجتمع المدني يمثل أحد أعمدة الديمقراطية اليونانية، ليس فقط عبر تقديم المساعدة للمهاجرين، بل أيضاً من خلال مراقبة السياسات الحكومية والدفاع عن الفئات الضعيفة، والتضييق عليه لا يؤدي فقط إلى حرمان المهاجرين من صوت يدافع عن حقوقهم، بل يضعف أيضاً الرقابة المجتمعية على السلطة، وقد شدد خبراء مجلس أوروبا على أن الديمقراطية لا تُقاس فقط بالانتخابات، بل بمدى قدرة المجتمع المدني على العمل بحرية.

تداعيات إنسانية للهجرة والقيود

وفقاً لبيانات المنظمة الدولية للهجرة، وصل إلى اليونان أكثر من 41 ألف مهاجر في عام 2022 وحده، معظمهم عبر البحر، تشير إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن ما يقارب 120 ألف طالب لجوء يعيشون في اليونان في ظروف صعبة، بمخيمات مكتظة وخدمات أساسية محدودة، وفي هذا السياق، تلعب المنظمات غير الحكومية دوراً حيوياً في توفير الغذاء، الرعاية الصحية، والدعم القانوني، وتقييد عملها يعني مباشرة تدهور أوضاع هؤلاء، خصوصاً النساء والأطفال الذين يشكلون نسبة كبيرة من المهاجرين.

الجدل حول المجتمع المدني في اليونان ليس جديداً فمنذ الأزمة المالية التي ضربت البلاد عام 2009 وما تبعها من سياسات تقشفية صارمة، ازداد اعتماد اليونان على المنظمات غير الحكومية لسد الفجوات الاجتماعية، لكن مع صعود التيارات القومية والشعبوية، بدأت هذه المنظمات تُتهم بأنها "أذرع أجنبية" أو "أدوات لضغط خارجي". هذا الخطاب وجد في ملف الهجرة أرضاً خصبة، ليصبح تقييد المجتمع المدني جزءاً من استراتيجية سياسية أوسع.

القانون الدولي والتزامات أثينا

تؤكد المواثيق الدولية، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الحق في حرية تكوين الجمعيات، كما أن الاتحاد الأوروبي يفرض التزامات واضحة على أعضائه باحترام حقوق اللاجئين وطالبي اللجوء، وتقييد المجتمع المدني لا يتعارض فقط مع هذه المواثيق، بل يعكس تناقضاً مع دور اليونان بوصفها عضواً مؤسساً في الاتحاد الأوروبي وموقّعاً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أصوات من الداخل

رغم المناخ العدائي، واصلت منظمات محلية مثل "سوليداريتي ناو" و"مجلس اللاجئين اليوناني" رفع صوتها ضد السياسات الحكومية، محذّرة من أن التضييق سيؤدي إلى "تجريم التضامن" كما تحدث محامون وناشطون حقوقيون عن قضايا مرفوعة ضد متطوعين بتهمة "تهريب مهاجرين"، في حين كان عملهم يقتصر على إنقاذ الأرواح في عرض البحر.

الأزمة الراهنة في اليونان تتجاوز كونها جدلاً وطنياً حول الهجرة، لتطرح سؤالاً أوسع عن هوية أوروبا ذاتها.. هل يظل الاتحاد الأوروبي ملتزماً بمبادئه المؤسسة القائمة على الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، أم يسمح بتآكلها تحت ضغط الأزمات السياسية والانتخابية؟ إن تقييد المجتمع المدني في اليونان ليس قضية محلية، بل إنذار مبكر يهدد القيم الديمقراطية التي يُفترض أن يقوم عليها المشروع الأوروبي بأكمله.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية