الأزمة الديموغرافية في اليونان.. قضية وجودية تهدد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
الأزمة الديموغرافية في اليونان.. قضية وجودية تهدد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
أخذت الأزمة الديموغرافية في اليونان في السنوات الأخيرة، أبعادًا وجودية، دفعت الحكومة إلى اتخاذ خطوات غير مسبوقة لمواجهتها، من الإعفاءات الضريبية السخية، إلى الحوافز المالية المباشرة للأسر.
وفي الوقت الذي تتداخل فيه أبعاد القضية بين الاقتصاد، والسياسة، وحقوق الإنسان، يحذّر الخبراء من تهديد متصاعد يمس النظام الصحي، والتعليم، وحقوق الأجيال المقبلة.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "الغارديان"، اليوم الاثنين، أعلنت الحكومة اليونانية عن حزمة إغاثة بقيمة 1.6 مليار يورو لمعالجة الانخفاض الحاد في عدد السكان، وُصفت بأنها "أجرأ إصلاح ضريبي يُطبق في اليونان منذ أكثر من 50 عامًا"،
تتضمن الحزمة تخفيضات ضريبية تصل إلى نقطتين مئويتين لجميع الشرائح، وإعفاءات خاصة للأسر ذات الدخل المنخفض التي لديها أربعة أطفال أو أكثر، على أن يبدأ التنفيذ في 2026.
وشدد رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس على أن تكلفة المعيشة يجب أن تُحسب بمعيار مختلف عندما يتعلق الأمر بالأسر التي لديها أطفال، وقال في تصريح نقله المصدر ذاته: "نعلم أن تكلفة المعيشة تختلف إذا لم يكن لديك طفل، وإذا كان لديك طفلان أو ثلاثة أطفال، لذلك، كدولة، علينا إيجاد طريقة لمكافأة مواطنينا الذين يختارون إنجاب الأطفال".
إطار وطني خطير
تضع الأرقام التي استعرضتها "الغارديان" الأزمة في إطار وطني خطير، فمعدل الخصوبة لا يتجاوز 1.4 طفل لكل امرأة، مقارنة بمستوى الإحلال السكاني البالغ 2.1.
وبحسب توقعات يوروستات، سينخفض عدد السكان من 10.2 مليون نسمة حاليًا إلى أقل من 8 ملايين بحلول 2050، مع تجاوز نسبة من هم فوق 65 عامًا 36%.
وصف وزير المالية كيرياكوس بيراكاكيس الأزمة بأنها ذات أبعاد "وجودية"، مؤكدًا أن الإصلاح الضريبي الجديد يضعها في صدارة الأولويات، فقد انخفض معدل الخصوبة إلى النصف منذ الأزمة الاقتصادية التي بدأت قبل 15 عامًا، حيث كان الشباب من أكثر المتضررين من إجراءات التقشف المرتبطة بأموال الإنقاذ الأوروبية.
نزيف الشباب والهجرة
نقلت الصحيفة البريطانية، أيضًا أن أكثر من 500 ألف يوناني، معظمهم من الشباب المتعلمين، غادروا البلاد بحثًا عن عمل خلال سنوات الأزمة الاقتصادية، هذه الهجرة الجماعية لم تُضعف فقط سوق العمل، بل أفرغت البلاد من فئة عمرية أساسية للإنجاب والإنتاج، ما فاقم النزيف الديموغرافي.
وتربط الأزمة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر: فقد كان الشباب من أكثر الفئات تضررًا من إجراءات التقشف، التي أضعفت قدراتهم على تأسيس حياة أسرية مستقرة، ودعت الكثير منهم إلى الرحيل.
وفي تقرير منفصل لوكالة "أسوشيتد برس"، أوضح ميتسوتاكيس أن التخفيضات الضريبية تستهدف نحو 4 ملايين مواطن، تشمل الطبقة الوسطى، والأسر الكبيرة، والمتقاعدين، والشباب، حيث يُعفى الشباب دون 25 عامًا من دفع أي ضرائب إذا لم يتجاوز دخلهم 20 ألف يورو، بينما تخفض الضرائب بشكل كبير للفئة العمرية بين 25 و30 عامًا.
كما أشار المصدر إلى أن سكان الجزر الصغيرة التي يقل عدد سكانها عن 20 ألف نسمة سيستفيدون من ضريبة قيمة مضافة أقل بنسبة 30%، فيما ستنخفض ضرائب الأملاك لسكان القرى على مدار العامين المقبلين.
من زاوية حقوقية، تبرز هنا إشكالية التوازن بين الحق في المساواة أمام النظام الضريبي، وبين التدابير التفضيلية الموجهة لفئات محددة باعتبارها ضرورية لإنقاذ المجتمع من التدهور الديموغرافي.
التعليم في قلب الأزمة
الأزمة لم تقف عند حدود الأرقام والسياسات المالية، حيث كشف تقرير لصحيفة "فايننشيال تايمز"، أن اليونان علّقت الدراسة في أكثر من 750 مدرسة للعام الدراسي الجديد، أي ما يتجاوز 5% من إجمالي المدارس في البلاد. السبب المباشر: انخفاض عدد الطلاب نتيجة الانهيار الديموغرافي.
وصرحت وزيرة التعليم، صوفيا زاخاراكي، بأن "الفصول الدراسية تعكس حالة أقسام الولادة لدينا"، مؤكدة أن الانخفاض المستمر في عدد المواليد انعكس بشكل مباشر على قطاع التعليم.
وظهرت الأرقام صادمة: أكثر من 111 ألف طالب اختفوا من التعليم الابتدائي خلال سبع سنوات فقط، بانخفاض نسبته 19% منذ 2018، هذا التراجع لم يقتصر على القرى النائية، بل طال أيضًا منطقة أتيكا التي تضم العاصمة أثينا.
ولا يقف الأمر عند إغلاق المدارس فقط، بل يتعداه إلى تهديد مباشر للحق في التعليم، فبحسب أرقام "فايننشيال تايمز"، يضطر بعض الأطفال في المناطق الريفية إلى السفر لمسافة تصل إلى 80 كيلومترًا يوميًا للوصول إلى المدرسة، وهو ما يعمّق الفوارق التعليمية والاجتماعية.
تراجع "حاد للغاية"
وصفت الخبيرة الديموغرافية، ألكسندرا تراجاكي، التراجع بأنه "حاد للغاية"، مشيرة إلى أن عدد الأشخاص في سن الإنجاب تراجع بشكل كبير منذ العقدين الماضيين، وبحسب بيانات 2022، انخفض عدد المواليد السنوي إلى أقل من 80 ألفا، فيما تضاعف عدد الوفيات تقريبًا بحلول 2023.
ويعد الشباب اليوناني هم الحلقة الأضعف في هذه الأزمة، فالكثير منهم يضطرون للعيش مع والديهم حتى الثلاثينيات بسبب ارتفاع أسعار المساكن وتدني الأجور، وهو ما يقلل من رغبتهم في الزواج أو الإنجاب.
من جانبها، نقلت "أسوشيتد برس" أن الحكومة تخطط لبناء مساكن بأسعار معقولة على أراضٍ عسكرية مهجورة، في محاولة لمواجهة أزمة السكن التي تُثقل كاهل الأجيال الشابة.
بين الاقتصاد والحقوق
تكشف الأزمة الديموغرافية اليونانية التداخل العميق بين الحق في التعليم، والحق في السكن، والحق في العمل اللائق، وبين السياسات الاقتصادية التي تُتخذ لمعالجة الانهيار السكاني.
وبينما ترى الحكومة أن الحوافز المالية والإصلاحات الضريبية قد تخفف من حدة الأزمة، فإن الخبراء الذين استشهدت بهم "فايننشيال تايمز" يحذرون من أن هذه الحوافز وحدها لن تكفي لتغيير الاتجاه.
يتضح أن الأزمة الديموغرافية في اليونان ليست مجرد مسألة اقتصادية أو إحصائية، بل قضية حقوقية بامتياز، إنها تمس جوهر الحق في التعليم، والحق في الصحة، والحق في السكن والعمل، وترسم مستقبلًا مقلقًا لأمة بأكملها إذا لم تُعالج الجذور العميقة لهذه المعضلة.