من القانون إلى الشارع.. كيف تؤثر سياسات الدولة ووسائل الإعلام في تزايد العداء تجاه المسلمين بفرنسا؟

من القانون إلى الشارع.. كيف تؤثر سياسات الدولة ووسائل الإعلام في تزايد العداء تجاه المسلمين بفرنسا؟

شهدت فرنسا في السنوات الأخيرة موجة متصاعدة من التمييز والاعتداءات التي تستهدف المسلمين سواء بوصفهم أفراداً أو كمؤسسات دينية واجتماعية، وتظهر أرقام جديدة من استقصاءات ومؤسسات رسمية مدنية أن الظاهرة لم تعد هامشية، وأن تبعاتها الاجتماعية والقانونية باتت عميقة، بدءاً من حرمان الأفراد من فرص العمل والمسكن ووصولاً إلى هجمات عنيفة داخل دور العبادة.

في هذا التقرير تحلل "جسور بوست" أسباب التصاعد، وآثار التمييز على النسيج الاجتماعي والاقتصادي، وتستعرض مواقف المنظمات الحقوقية والمتطلبات القانونية الدولية، مع إبراز عناصر تاريخية تفسر هشاشة الحماية في مواجهة موجات الإسلاموفوبيا.

تتجذر معالم العداء في سياق تاريخي يمتد من حقبة الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا مروراً بمرحلة الهجرات الكبرى إلى فرنسا في منتصف القرن العشرين، وصولاً إلى أحداث العنف السياسي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي التي رسّخت صوراً نمطية عن المسلمين، فقوانين العلمانية والملابس الدينية (قانون 2004 حول الرموز الدينية في المدارس مثلاً) أثرت كذلك في تشكيل خطاب عام حول الاندماج والهوية، واجهت جدلاً طويل الأمد بين ضرورة الحياد العام وحقوق الأفراد في التعبير الديني.

حجم الظاهرة الحالية 

أظهرت نتائج مسح أجراه مرصد التمييز ضد المسلمين في فرنسا، بتعاون بين مسجد باريس الكبير ومعهد الرأي العام (Ifop)، أن نحو 66 في المئة من المسلمين المجيبين تعرضوا لسلوك عنصري خلال السنوات الخمس الماضية، فيما سجل المسح نسب تمييز مرتفعة في مجالات العمل والسكن والخدمات العامة، وهذه الأرقام تقرّب حجم المشكلة من حياة يومية واقعية لا تقتصر على حالات فردية. 

على المستوى الوطني، سجّلت وزارة الداخلية ارتفاعاً حاداً في الأعمال المعادية للمسلمين خلال الأشهر الأولى من عام 2025، مع زيادة ملحوظة في الاعتداءات على أشخاص ومؤسسات دينية مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، وهو مؤشر يضع ملف حماية الأقليات الدينية في مقدمة أولويات الأمن المدني. 

أشكال التمييز وتجلياته الميدانية

يتخذ التمييز ضد المسلمين وجوهاً متعددة منها: رفضاً في التوظيف (نسب مرتفعة تُبلّغ عن فشل طلبات التوظيف لأسباب مرتبطة بالاسم أو المظهر)، وعوائق في الحصول على سكن لائق، وممارسات تفتيش وتحرٍّ مكررة من قبل الشرطة، فضلاً عن ذلك يُبلغ مسلمون عن تجارب تمييز في المدارس ومرافق الصحة والإدارة العامة، ما يقلص فرص الإدماج ويعمّق الشعور بالوصم الاجتماعي، كما تصاعدت الاعتداءات العنيفة على الأفراد وأماكن العبادة، وأحياناً بغطاء خطاب سياسي أو إعلامي يسهم في تطبيع الكراهية.

أسباب متعددة متداخلة

تتداخل أسباب هذه الظاهرة بين عوامل هيكلية واجتماعية وسياسية، في الأبعاد الهيكلية، يذكر الباحثون أثر إرث الاستعمار والتمييز البنيوي الذي رسّخ انقسامات في فرص الوصول إلى الموارد والوظائف والتعليم. سياسياً، أدت مبادرات حكومية وحنكات انتخابية حول مكافحة الانفصالية أو محاربة التطرف إلى إبراز المسلمين كقضايا أمنية وثقافية، ما أغرى قطاعات من الإعلام والسياسة بتسخير لغة المخاوف لإثارة التصويت والاهتمام.

 اقتصادياً، تُفاقم الأزمات وتراجع فرص العمل هشاشة الأحياء ذات الكثافة المسلمة، ما يجعلها أكثر عرضة للتهميش والوصم، كما يسهم انتشار منصات التواصل في تضخيم خطاب الكراهية ونشر صور نمطية صارمة تُعمّق العزلة الاجتماعية.

ردود فعل المنظمات الحقوقية والهيئات الدولية

دعت منظمات حقوقية دولية وإقليمية، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمات أممية معنية بحرية الدين والمعتقد، إلى اعتراف رسمي بواقع التمييز والتصدي له عبر سياسات حماية فعالة، ومساءلة صارمة للمعتدين، وسلطت تقارير حقوقية الضوء على ضرورة رفع مستوى التحقيقات في الجرائم المرتكبة على أساس ديني وتوفير دعم عملي للضحايا، وعلى المستوى الدولي، دعا الأمين العام للأمم المتحدة والمقرّرون الخاصّون إلى التضامن مع الضحايا وتنفيذ التزامات حقوق الإنسان التي تترتب على فرنسا باعتبارها طرفاً في معاهدات دولية لحقوق الإنسان، وأشارت تقارير هذه المنظمات إلى أن إنكار أو تقليل خطورة الظاهرة يفاقمها ويعرقل الحلول.

الجانب القانوني.. تشريعات وطنية ومواثيق دولية

تمتلك فرنسا إطاراً قانونياً وطنياً يحظر التمييز وجرائم الكراهية، كما أنها طرف في معاهدات دولية تلزمها حماية حرية العبادة والمساواة، مع ذلك، يبرز فراغ بين النصوص والتطبيق، إذ تواجه ضحايا العنصرية عقبات في التبليغ، وفي تصنيف جرائم الكراهية، وأحياناً في تلقي استجابة فعّالة من القضاء أو أجهزة الأمن، وتثير ممارسات حلّ جمعيات أو استهداف منظمات مدافعة عن الحقوق أسئلة قانونية حول حرية التجمع والتعبير وفعالية مؤسسات المجتمع المدني في حماية الضحايا وتوثيق الانتهاكات.

تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية

يمثل توجّه رهاب المسلمين تهديداً للتماسك الاجتماعي ويغذي الاستقطاب السياسي، وعلى المستوى الاقتصادي، يؤدي تهميش فئات واسعة إلى ضياع موارد بشرية وإنتاجية وإلى تكاليف اجتماعية طويلة الأمد تتجسّد في فقدان فرص عمل وتعليم وجودة حياة متدنية، وسياسياً، تؤدي الخطابات المعادية إلى توتر بين المواطنين، وتضع ضغوطاً على مؤسسات الحكم، كما تفتح الباب أمام تشريعات قد تقيد الحريات المدنية باسم الأمن، الأمر الذي يضع فرنسا نفسها أمام اختبار التوازن بين حماية المجتمع وضمان الحقوق الأساسية.

التوصيات الحقوقية

تدعو المنظمات الحقوقية والخبراء إلى مجموعة إجراءات متكاملة: تعزيز آليات الإبلاغ وحماية المبلغين، تدريب الأجهزة الأمنية على مكافحة التحيز العنصري، مراجعة التشريعات التي تسمح بحالات تمييز مؤسسي، دعم منظمات المجتمع المدني المختصة بالتوثيق والمساعدة القانونية، وإطلاق حملات تربوية في المدارس ووسائل الإعلام لمناهضة الصور النمطية، كما تطالب الجهات الدولية بتعزيز الرقابة على حالات التمييز وتقديم مساندة فنية وتمويلية لمشروعات الإدماج الاجتماعي الاقتصادي.

الأرقام الأخيرة والشهادات الميدانية تؤكد أن العنصرية ضد المسلمين في فرنسا ظاهرة واسعة ومتعدّدة الأبعاد، تتغذى من موروثات تاريخية، ومن سياسات وممارسات معاصرة، ومن مناخ إعلامي وسياسي متوتّر، وتتطلب المواجهة الفعّالة سياسات حكيمة تعيد بناء الثقة، وتعزز الحماية القانونية، وتستثمر في برامج اندماجية طولية، ومن دون ذلك، ستتراكم التوترات الاجتماعية وتضعف قدرة المجتمع على الصمود أمام موجات خطاب الكراهية والعنف.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية