بين صمت الدولة وغضب الشارع.. "الإسلاموفوبيا" تُفجر الخلاف داخل الحكومة الفرنسية
بعد مقتل شاب مسلم
عادت إلى الواجهة في فرنسا مخاوف متزايدة من تنامي مظاهر الإسلاموفوبيا، في ظل إحصاءات رسمية تشير إلى ارتفاع لافت في الاعتداءات ضد المسلمين منذ مطلع عام 2025، إلى جانب حادث طعن مروّع وتظاهرات حاشدة نددت بالجريمة وطالبت بتحرك حكومي جاد.
ويُعد المسلمون ثاني أكبر مكوّن ديني في فرنسا، ويقدّر عددهم بأكثر من ستة ملايين شخص، أي نحو 10% من سكان البلاد.
وكشفت الإدارة الوطنية للاستخبارات الإقليمية عن تسجيل 79 حالة اعتداء على المسلمين خلال الربع الأول من عام 2025، مقارنة بـ46 حالة في الفترة نفسها من عام 2024، بزيادة بلغت 72%.
ورغم ذلك، تؤكد منظمات تمثل الجالية المسلمة أن الأرقام لا تعكس الحجم الحقيقي للظاهرة، بسبب إحجام عدد كبير من الضحايا عن تقديم شكاوى، بحسب تقارير إذاعة "فرانس إنفو".
لكن الحدث الذي فجّر الغضب الشعبي كان حادث الطعن الوحشي الذي راح ضحيته الشاب المالي أبوبكر سيسيه (22 عامًا)، داخل مسجد في مدينة لا غراند كومب (إقليم جارد) يوم الجمعة 25 أبريل، فقد طعنه فرنسي يُدعى أوليفييه هـ (20 عامًا) 57 طعنة، وصوّر الجريمة بهاتفه، في واقعة وُصفت بأنها صادمة وتسلط الضوء على الخطر المتصاعد الذي يواجهه المسلمون في فرنسا.
ورغم بشاعة الجريمة، أعلنت النيابة العامة في نيم، على لسان المدعية سيسيل جينساك، أنها لا تعتبر الحادث عملاً إرهابيًا بل مجرد “رغبة قاتلة في إزهاق روح بشرية”، وهو ما رفضه محامي الضحية، ياسين بوزرو، معتبرًا أن الجريمة "مدفوعة بكراهية دينية واضحة"، وأن القاتل سبق له الإدلاء بتصريحات عدائية تجاه المسلمين، ما ينفي تمامًا فكرة أنها "لحظة جنون".
ردود ومظاهرات غاضبة
أثار الموقف الرسمي موجة غضب واسعة، دفعت آلاف المتظاهرين إلى الخروج مجددًا إلى الشوارع، ففي 11 مايو، شارك نحو 3700 شخص في تظاهرة انطلقت من ساحة الباستيل إلى ساحة الأمة بباريس، رفعوا خلالها لافتات كتب عليها: "العنصرية تبدأ بالكلمات وتنتهي مثل أبوبكر"، و"لا للإسلاموفوبيا"، كما هتف المشاركون ضد وزير الداخلية اليميني برونو ريتيلو: "حتى لو لم يرغب ريتيلو، نحن هنا".
وشهد أوائل مايو أيضًا مظاهرات مماثلة حملت مطالب بوقف خطاب الكراهية ضد المسلمين، وضرورة الاعتراف الرسمي بالإسلاموفوبيا كمشكلة قائمة بحد ذاتها، لا مجرد شكل من أشكال العنصرية العامة.
وأكد الأكاديمي الفرنسي في تصريحات لـ"جسور بوست" أن "الارتفاع الحاد في وتيرة الاعتداءات خلال أشهر قليلة فقط يؤشر إلى أزمة يجب أن تتحرك السلطات لمعالجتها سريعًا، من خلال تكثيف جهود الحوار وتفعيل مبادئ التعايش السلمي والقانوني".
من جهته، حمّل أحد المسؤولين الحقوقيين في باريس، في تصريح مماثل، اليمين المتطرف مسؤولية تأجيج الإسلاموفوبيا بهذه الطريقة الخطيرة، داعيًا الحكومة إلى "الاعتراف الصريح بالإسلاموفوبيا وعدم الاكتفاء بتصنيف هذه الحوادث ضمن جرائم الكراهية أو العنصرية فقط"، وشدد على ضرورة "حماية حقوق المواطنين المسلمين الذين يحترمون مبادئ الجمهورية الفرنسية العلمانية".
وقائع تؤجج المخاوف
إلى جانب حادث الطعن، رصدت تقارير أخرى تصاعدًا في حوادث الكراهية ضد المسلمين، ففي مدينة بواسي (إقليم إيفلين)، تعرّضت امرأة مسلمة تبلغ من العمر 26 عامًا لهجوم في وضح النهار أثناء عودتها إلى المنزل مع طفلها الرضيع، حيث أقدم رجل على نزع حجابها وسكب سائل على كتفها وشعرها.
كما وردت بلاغات حول حوادث تحرّش بسيارات تنحرف عمدًا باتجاه مسلمات في الشارع، مع توجيه عبارات عنصرية تطالبهن "بالعودة إلى بلادهن".
وحذّر الأزهر الشريف في بيان رسمي من تنامي ما وصفه بـ"جماعات الإرهاب الأبيض في أوروبا وأمريكا"، معتبرًا جريمة قتل الشاب أبوبكر "حادثًا إرهابيًا صريحًا"، يستدعي تحركًا دوليًا لحماية الأقليات المسلمة.
وختم الناشط الحقوقي ياسين بن يطو، الأمين الوطني لجمعية "ريد جون"، بتأكيده أن "الخطاب غير المنضبط لبعض الساسة الفرنسيين يغذّي بيئة عدائية تهدد أمن واستقرار جزء من الشعب الفرنسي"، داعيًا إلى مساءلة جادة لخطاب الكراهية المتصاعد.
أزمة داخلية
وأعاد حادث مقتل الشاب المسلم أبوبكر سيسيه داخل مسجد بمدينة لا غراند كومب تسليط الضوء على الجدل السياسي المحتدم في فرنسا حول الإسلاموفوبيا، وأثار خلافًا داخل الحكومة الفرنسية بشأن توصيف هذا النوع من الجرائم والاعتراف الرسمي به.
وفي كلمة ألقاها خلال مراسم تأبين الضحية، قال شمس الدين حافظ، إمام المسجد الكبير في باريس: "هذه الجريمة ليست خبرًا عابرًا، بل هي فعل كراهية وعنف بالغ، رافقته شتائم معادية للإسلام. إنها جريمة إرهابية ومعادية للإسلام بوضوح. عندما تصبح كلمة الإسلاموفوبيا موضع نقاش عقيم، فإننا بذلك ننكر واقع العنف. لا يمكننا محاربة الكراهية إذا كنا نرفض تسميتها".
وفي سياق متصل، جدد وزير الداخلية الفرنسي اليميني برونو ريتيلو اعتراضه على استخدام مصطلح "الإسلاموفوبيا"، معتبرًا في مقابلة مع قناة BFM TV أن "المصطلح يحمل دلالة أيديولوجية"، وكان الوزير قد هتف في مظاهرة قبل شهر فقط بشعار "يسقط الحجاب"، ما أثار انتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية والجالية المسلمة.
في المقابل، دافع رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عن استخدام المصطلح، وقال في تصريح لصحيفة جورنال دو ديمانش: "يجب أن نتحلى بالشجاعة لنقول الأمور كما هي، إذا لم تكن هذه جريمة كراهية ضد الإسلام، فما هي إذن؟ ولماذا نرفض استخدام الكلمات الصحيحة؟".
ورغم هذا الموقف، لم يُصدر رئيس الوزراء توصيفه للحادث إلا بعد مرور أكثر من 24 ساعة، حيث كتب عبر منصة "إكس" أن ما حدث هو "جريمة شنيعة نابعة من الإسلاموفوبيا".
أما الرئيس إيمانويل ماكرون، فقد علّق بعد يومين من وقوع الجريمة، معبرًا عن تضامن "الأمة الفرنسية" مع عائلة الضحية والجالية المسلمة، ومؤكدًا أن "العنصرية والكراهية الدينية لا مكان لهما في فرنسا".
في المقابل، اعتبر الأزهر الشريف الحادث "إرهابيًا"، وفي بيان نشره عبر منصة "إكس" أدان فيه "الاعتداء الإرهابي الذي استهدف مصليًا مسلمًا داخل مسجد في بلدية لا غراند كومب، بعد أن وجّه له أحد الإرهابيين عشرات الطعنات حتى أرداه قتيلًا".
وحذر البيان من تصاعد "أنشطة جماعات الإرهاب الأبيض في أوروبا والولايات المتحدة"، مشيرًا إلى أن هذه الجماعات "تتستر خلف شعارات عنصرية كالعرق الأبيض والقومية البيضاء، لتبرير جرائمها ضد المسلمين".
وشدد الأزهر على ضرورة تبني استراتيجية أمنية دولية شاملة لمواجهة هذا التوجه، ووقف الجرائم التي تهدد أرواح المسلمين في الغرب.
أزمة اجتماعية وثقافية
وفي تصريح لـ"جسور بوست"، قال الأكاديمي الفرنسي المتخصص في الشؤون الدولية، بيير لويس ريمون، إن الإحصائيات الأخيرة "تكشف عن إشكالية اجتماعية فرنسية عميقة تتطلب معالجة فورية من السلطات".
ودعا ريمون إلى "تكثيف الجهود المؤسسية لتعزيز الحوار الثقافي حول الإسلام، عبر الأنشطة الرسمية التي تسعى لتقديم الإسلام كجزء من التراث الإنساني والتاريخ الفرنسي"، مشيرًا إلى أهمية مؤسسات مثل معهد العالم العربي ومعهد الثقافات الإسلامية في باريس في لعب دور محوري بهذا الشأن.
وأضاف أن "السبب الرئيسي لتكرار هذه الأفعال هو الجهل بمفهوم الجمهورية، التي تقوم على احتضان جميع الانتماءات الدينية والثقافية تحت سقف واحد، شريطة احترام شروط الاندماج".
وشدد على أن "كل اعتداء يجب أن يُعاقب عليه القانون"، مؤكدًا أهمية الرسالة الثقافية للمؤسسات الرسمية في ترسيخ معايير التعايش السلمي.
من جهته، قال الحقوقي الدولي عبد المجيد مراري، المسؤول في منظمة "أفدي" الحقوقية في باريس، إن "الإسلاموفوبيا في فرنسا آخذة في التصاعد، لا سيما بعد حرب غزة، ومع تصاعد خطاب اليمين المتطرف داخل الدولة، بما في ذلك من مسؤولين حكوميين مثل وزير الداخلية".
وأكد مراري في تصريح لـ"جسور بوست" ضرورة أن "تعترف الحكومة الفرنسية رسميًا بمصطلح الإسلاموفوبيا، وألا تكتفي باعتبار الجرائم ذات الطابع المعادي للمسلمين مجرد حوادث عنصرية".
وأوضح أن "الاهتمام الإعلامي والسياسي لم يُسلّط بهذا الشكل إلا بعد مقتل الشاب أبو بكر داخل المسجد، وهي جريمة نعدّها اعتداءً صريحًا على الإسلام"، مؤكدًا أن "تأخر المسؤولين الفرنسيين في التفاعل مع الحادث زاد من تفاقم الأزمة".
وأشار إلى أن "الفرق في التعامل واضح؛ فعندما يقع اعتداء مشابه على يهودي، تتحرك أجهزة الدولة بسرعة، فيما لم يحدث ذلك بعد مقتل أبو بكر، وهو ما يُعد تقويضًا لقيم الجمهورية الفرنسية".
وختم الحقوقي عبد المجيد مراري بالتحذير من "استمرار استخدام فزاعة التخويف من المسلمين، والصمت على الجرائم المرتكبة بحقهم"، مؤكدًا أن المسلمين في فرنسا مواطنون ملتزمون بالقانون، ويحترمون مبادئ الجمهورية والعلمانية أكثر من بعض من يزعم الدفاع عنها، بينما "اليمين المتطرف هو من ينتهك تلك المبادئ"، داعيًا حكومة باريس إلى مراجعة مواقفها وحماية المواطنين المسلمين من الاعتداءات المتكررة.