تخفيضات المساعدات تهدد مكتسبات الحقوق.. من يحمي الضحايا عندما ينهار التمويل الإغاثي؟
تخفيضات المساعدات تهدد مكتسبات الحقوق.. من يحمي الضحايا عندما ينهار التمويل الإغاثي؟
منذ منتصف القرن العشرين، نما دور المساعدات الخارجية والمجتمع المدني في دعم حقوق الإنسان، وقد وسعت الاتفاقات الدولية، وإعلان حقوق الإنسان، وبرامج التنمية المستدامة نطاق العمل الحقوقي الممول، لكن التحولات الجيوسياسية والأزمات الاقتصادية المتعاقبة أعادت أولوية بعض الحكومات إلى الأمن والدفاع، ما جعل دعم حقوق الإنسان أكثر هشاشة أمام التغييرات السياسية في بلدان مانحة رئيسية.
وفق ما أورده تقرير مفوضيّة الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان (ohchr) شهدت ساحة تمويل حقوق الإنسان تحولًا سريعًا خلال العامين الأخيرين، إذ تحذر شبكات مانحين وخبراء أمميون من أن تخفيضات كبيرة في المساعدات الخارجية ستقوّض قدرة المنظمات والأمم المتحدة على حماية الحقوق الأساسية لملايين البشر.
وتشير تقديرات شبكة منظمات تمويل حقوق الإنسان إلى أن التمويل المخصص لحقوق الإنسان قد ينخفض بمقدار يصل إلى 1.9 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2026، بينما سينخفض إجمالي المساعدات التنموية الرسمية بنحو 28 بالمئة، أي ما يعادل تراجعًا سنويًا كبيرًا في قدرة الدول والمجتمع المدني على تقديم خدمات إنقاذ حياة وحماية القانون.
أسباب الانكماش المالي
تتعدد أسباب انكماش التمويل الإغاثي، بين سياسات داخلية في دول مانحة كبرى، وإجراءات مراجعة أو تجميد للحزم المخصصة، وتحول أولويات إلى الإنفاق الدفاعي في ظل توترات جيوسياسية، كلها عوامل مشتركة تقف وراء القرار، وتقرير الشبكة يبيّن أن ثلاثة بلدان وحدها تساهمان في الجزء الأكبر من التراجع المتوقع في المساعدات، ما يعكس ارتباط النظام العالمي لتمويل حقوق الإنسان بقرارات سياساتية وطنية تتجاوز الاهتمامات الإنسانية كما أدت سياسات وقف أو إعادة توجيه المساعدات في بعض العواصم إلى فجوات فورية في برامج صحية وتعليمية وحماية مدافعي الحقوق.
المنظمات الأممية المعنية بالحقوق تشهد ضغوطًا مالية مباشرة، وقد أطلقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مناشدات لتمويل عاجل ولامست خطر خسارة وجودها الميداني في بلدان عدة، فيما حذّر المفوض السامي من فجوات تشغيلية قد تترك دولاً بأكملها من دون مراقبة أو دعم حقوقي، وأبلغت تقارير أممية عن عجز مالي يهدد بترك عشرات الدول دون تمثيل أممي لحقوق الإنسان أو بتقليص حضورٍ ميداني أساسي؛ وفي الوقت نفسه أُجبرت وكالات أممية أخرى على تخفيضات كبيرة في الموظفين والعمليات.
انعكاسات إنسانية مباشرة
التمويل الضعيف لا يبقى محصورًا في ميزانيات المنظمات؛ بل يصل إلى صميم حياة الناس، وتحذيرات الشبكة تتضمن سيناريوهات قاتمة: ملايين الأشخاص في خطر فقدان الوصول إلى خدمات الوقاية والعلاج الخاصة بالإيدز، ومخاطر ارتفاع وفيات الأطفال من أمراض يمكن الوقاية منها، إلى جانب تراجع برامج إعادة التأهيل لضحايا التعذيب ودعم الناجين من العنف الجنسي، وتوثق تقارير أممية أن مفوضية حقوق الإنسان دعمت في عامًا واحدًا إطلاق سراح آلاف المعتقلين التعسفيين ومساندة عشرات الآلاف من ضحايا التعذيب؛ وتقليص الموارد يهدد بإلغاء البرامج الأممية وإعادة التأهيل والزيارات الميدانية والجهود القضائية القائمة لمنع الإفلات من العقاب.
النساء والفتيات، والأشخاص ذوو الإعاقة، والمدافعون عن الحقوق هم الأكثر عرضة للتأثر بفقدان التمويل، والخدمات المتخصّصة (ملاجئ للنساء المعرضات للعنف، وخطوط اتصال للطوارئ لضحايا الاضطهاد الجنسي، وبرامج حماية المدافعين الرقميين) تعمل كثيرًا بتمويل خارجي مباشر، وتوقف هذه المصادر يترك الناس مكشوفين أمام العنف والتمييز، وحذرت منظمات حقوقية دولية من أن توقف التمويل يعيد إنتاج بيئات الإفلات من العقاب، ويضعف قدرة المجتمع المدني على توثيق الانتهاكات ومساءلة المسؤولين.
تداعيات على العدالة الانتقالية
الجهود التي تُبنى على سنوات من العمل الميداني والوثائق والشهادات أصبحت مهددة، ففي مناطق تشهد صراعات أو تحوّلات سياسية، يعتمد البحث عن الحقيقة وإجراءات العدالة الانتقالية على تمويل طويل الأمد لدعم لجان التحقيق وإعادة التأهيل القانوني والطبّي للضحايا، وتقليص الموارد يعني تعطّل لجان التحقيق وتقليص قدرات القضاة والمحامين ومنظمات المساعدة القانونية، وبذلك يضعف المسار القضائي لضحايا الانتهاكات ويطيل زمن الإفلات من العقاب.
المنظمات الحقوقية الكبرى وصنّاع القرار المدني نادوا بضرورة إعادة النظر في الأولويات، ودعا المفوض السامي لحقوق الإنسان إلى تحالف عابر للقطاعات يجمع الدول والمانحين والمؤسسات الخيرية لتعويض الفجوة ووقف تآكل آليات الحماية؛ منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي وثقت آثار إيقاف أو تقليص المساعدات الأميركية والأوروبية على برامج صحية وإعلام مستقِل وحماية المدافعين، وناشدت عودة التمويل كخط دفاع أخير أمام موجة من الانتهاكات المتصاعدة، كما أشارت تحليلات مستقلة إلى أن تقليصات ميزانية الأمم المتحدة وعمليات الإصلاح الهيكلي قد تضرب عمودًا فقريًا للعمل الحقوقي الدولي.
خطورة الحلول الجزئية
قواعد القانون الدولي تضع على عاتق الدول التزامًا بحماية حقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لكن التمويل الدولي والبرامج المساندة يوفران آليات تنفيذ فعّالة. عندما تتقلّص هذه الآليات تبقى النصوص القانونية معطّلة عمليا، وتتطلب المحاسبة الدولية والملفات الحقوقية المعقّدة استمرارية تمويلية ومتخصصة؛ والحلول الجزئية أو التحويلات قصيرة الأجل لا تغني عن بناء مؤسسات قضائية وصحية مستقرة.
تُبيّن الأدلة أن التخفيضات الحالية لا تضر بمؤسسات فحسب، بل تقوّض حماية حياة وكرامة ملايين الناس، وتوصيات المنظمات الحقوقية تركز على ثلاث نقاط قابلة للتطبيق تشمل: ضمان تمويل طارئ للأطر الأساسية للحماية الإنسانية والحقوقية، ربط الدعم المالي بحماية المساحات المدنية ومنع القيود على منح الأموال العابرة للحدود، وتعزيز شراكات مع مؤسسات عامة وخاصة لملء الفجوات طويلة الأمد، وإذا لم تُعالج هذه الفجوات بسرعة وبآليات مستدامة، فإن النظام العالمي لحقوق الإنسان سيتعرض لتآكل طويل الأجل، وستتراجع قدرة الضحايا والمهمشين على الوصول إلى العدالة والرعاية التي تعتمد عليها حياتهم وكرامتهم.