ضريبة أن تكوني امرأة.. معاناة من أوغندا

ضريبة أن تكوني امرأة.. معاناة من أوغندا

لقد ألحقت تخفيضات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمساعدات الإنسانية في الخارج أضرارًا بمختلف الفئات، لكن ما أراه على الأرض أن الأكثر تضررًا هن النساء والفتيات، وهو ما سينعكس سلبًا على الجميع، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا.

أحيانًا لا تستهدف هذه التخفيضات الفتيات بشكل مباشر، لكن حين تُرهق العائلات، يكنّ هنّ أول من يدفع الثمن الأعلى. ففي مستوطنة «روامنجا» للاجئين الكونغوليين التي زرتها جنوب غربي أوغندا، أدت تخفيضات المساعدات إلى تقليص الحصص الغذائية، وتسريح 88 معلمًا، وكانت النتيجة أن آلاف الطلاب تركوا مقاعد الدراسة خلال الأشهر الأخيرة، والغالبية العظمى من هؤلاء المنقطعين عن التعليم كن من الفتيات.

يقول ديفيد موغيني، مسؤول المستوطنة: «إن نحو ربع أطفال المدارس فقط هنا من الفتيات اليوم. وحتى قبل أشهر قليلة، كان العدد يقارب النصف».

وأوضح أن 70 في المائة من العائلات في المستوطنة فقدت مساعداتها الغذائية منذ مايو الماضي، وعندما يشتد الضيق بالأسر، يكون أول ما تفعله هو سحب بناتها من المدارس ليقمن بجمع الحطب وجلب الماء، أو رعاية الأشقاء الصغار، أو العمل في الحقول، أو بيع الخضروات في السوق.

إن التنقل بين هذه القرى الفقيرة شرق الحدود الكونغولية بعد تخفيضات المساعدات الإنسانية يكشف عن لوحة متشابكة من الألم يشترك فيها الجميع، لكن وطأتها الأشد تقع على النساء.

كارونغي كيفن، البالغة من العمر 46 عامًا، نجت من اعتداء جنسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية خلّف لها مضاعفات صحية خطيرة. وقد فرت في فبراير الماضي إلى أوغندا، حيث جعلت تخفيضات الخدمات الصحية حصولها على الرعاية أمرًا بالغ الصعوبة. لقد تضررت برامج صحة النساء على نحو خاص بسبب هذه التخفيضات.

ومع انحسار الرعاية الطبية، تزداد وفيات الأمهات أثناء الولادة. ومع تلاشي الغذاء وبكاء الأطفال جوعًا، يترك بعض الأزواج المنهكين زوجاتهم وأبناءهم. ومع تفكك النظام الاجتماعي، يكون معظم ضحاياه من الفتيات اللواتي يتعرضن للاغتصاب، ثم يُنبذن بسبب ما تعرضن له. وعندما تصل المرحلة إلى اليأس، تكون الفتيات مثل أليس موغييشا عرضة للزواج القسري.

تقول أليس: «بكيت حين أخبرني أبي أن عليّ الزواج. لكن بعد أن توقفت المساعدات الغذائية، قال إنه لم يعد أمامي خيار سوى الزواج». وهكذا، قبل ثلاثة أسابيع فقط من زيارتي، كانت قد تزوجت.

سألتها بخجل كيف حالها الآن. أجابت: «أنا سعيدة» بصوت خافت، لكنها بدت على وشك البكاء. لم تكن قد تناولت طعامًا منذ 24 ساعة، ولم يكن لديها أمل كبير في أن يعود زوجها من الحقول في ذلك المساء بشيء يؤكل.

لم تكن أليس تعرف تاريخ ميلادها، لكنها كانت تعتقد أن عمرها 15 أو 17 عامًا. لذا توجهتُ إلى منزل عائلتها لأفحص الوثائق الخاصة باللاجئين لعلها تحدد عمرها. لكن الأمر بقي غامضًا: والدها، فرانسيس تواغيرا، أبرز لي وثيقة غير موثوقة تشير إلى أنها في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة.

سألته لماذا زوّج أليس رغم رفضها. أبدى أسفًا، لكنه لم يبدِ ندمًا. قال: «كان من المهم أن تتزوج لأننا مفلسون.» وأضاف أنه حصل على مهر من عائلة الزوج قدره 140 دولارًا. وتابع: «لو كانت المساعدات لا تزال تصلنا، لبقيت أليس معنا».

ثم أشار إلى ابنته الأصغر، موهاوي، التي تشير الوثائق إلى أن عمرها 12 أو 13 عامًا. وقال: «إذا استمرت الأوضاع على هذا النحو، فسأضطر إلى تزويج موهاوي أيضًا».

حاولت أن أسأل موهاوي عن رأيها، لكنها كانت شديدة الخوف فلم تستطع أن تنطق بكلمة واحدة.

كما أشرتُ مرارًا، هناك أسباب تتعلق بالمصلحة الذاتية تجعلنا نشعر بالقلق من تخفيضات ترامب للمساعدات. فالأمراض عابرة للحدود، وإذا فقدنا أنظمة الرصد الصحي في الخارج نصبح أكثر عرضة للأوبئة في الداخل. والدول الفاشلة تُنتج موجات من الهجرة تصل في النهاية إلينا. كما أن المساعدات الإنسانية أداة من أدوات السياسة الخارجية؛ نواجه الصين بالغواصات، لكننا نواجهها أيضًا ببرامج المساعدات الإنسانية التي تهدف إلى ترسيخ النفوذ الناعم.

لكن أقوى سبب في نظري هو المسؤوليّة الأخلاقية، فإذا كان بإمكاننا إنقاذ حياة الأطفال بسهولة وبكلفة بسيطة، فعلينا أن نفعل ذلك. وبعد عقود من تقديم مساعدات يعتمد عليها الناس وتنقذ ما يُقدَّر بـ3.3 مليون حياة سنويًا، لا يجوز لنا فجأة سحب البساط من تحت أقدامهم من دون منحهم وقتًا للتكيف.

الرجال والفتيان يتضررون أيضًا من انهيار الخدمات الطبية، لكن النساء والفتيات يعانين بصورة خاصة بسبب أزمة في خدمات الصحة الإنجابية، فقد أصبح بلوغ الفتاة سن البلوغ في أماكن كهذه من أخطر ما يمكن أن تواجهه، فضلًا عن الحمل المبكر الذي يعد أشد خطورة.

في أحد المراكز الصحية التقيت فتاة عمرها 14 عامًا تُدعى شميم، كانت حاملًا وتنتظر وضع مولودها في أكتوبر، وقد تركت المدرسة بسبب ذلك. سألتها عن صديقها، لكن تبيّن أنه لا يوجد.

قالت بهدوء: «لقد اغتُصبت. استخدم القوة».

أوضحت شميم أن التخفيضات الحادة في المساعدات زادت من الجرائم بكل أنواعها، من سرقة الطعام إلى الاعتداءات. كانت تشعر بالأمان سابقًا في المدرسة أو البيت، لكن مع النقص أصبح الجميع يعمل في الحقول وباتت وحيدة في المنزل حين هاجمها رجل في العشرينيات.

وأضافت بصوت منخفض: «لم أكن أعرف شيئًا عن الجنس، ولم أكن أعرف كيف يُنجب الأطفال».

لطالما كان هناك اغتصاب وجرائم أخرى، لذا لا أريد المبالغة في ربط ذلك بتقليص المساعدات، لكن يبدو أن اليأس قد قوّض النسيج الاجتماعي وجعل الفتيات أكثر عرضة للخطر. في إحدى القرى، وجدت طفلة عمرها 9 سنوات تُدعى بروفيا تُركت وحدها أسبوعًا في كوخ العائلة تعتني بأخيها البالغ 3 سنوات، بول، لأن أمهم كانت في المستشفى مع شقيقهم الرضيع المصاب بسوء تغذية حاد.

كانت إدارة ترامب معادية بشكل خاص للصحة الإنجابية. فقد أوقفت تمويل صندوق الأمم المتحدة للسكان، وهو من أكبر موردي وسائل منع الحمل وقوة رئيسية في خفض وفيات الأمهات، كما خفّضت تمويل برامج تنظيم الأسرة، بل أعلنت أنها ستحرق ما يقارب 10 ملايين دولار من اللولب الرحمي والغرسات وحبوب منع الحمل. ويُقدّر معهد غوتماخر أن كل تخفيض قدره 10 ملايين دولار في الإنفاق على تنظيم الأسرة الدولي يؤدي إلى 362 ألف حالة حمل غير مخطط لها إضافية و718 وفاة للأمهات.

الآن، أصبح تنظيم الأسرة أصعب في الحصول عليه، كما أخبرني المرضى والأطباء، وعندما تحمل النساء لا يستطعن دائمًا إجراء اختبار فيروس نقص المناعة البشرية، وهو ضروري لمنع انتقال الفيروس إلى الأطفال.

حتى الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية، التي كانت تُوفَّر غالبًا بتمويل أمريكي بكلفة 12 سنتًا يوميًا للشخص، بدأت أيضًا تصبح نادرة. جوديث مبابازي، تبلغ من العمر 47 عامًا، قالت لي إنها اكتشفت إصابتها بالفيروس في مارس، لكنها لا تزال عاجزة عن الحصول على العلاج.

قالت وهي تبكي: «أخبروني أنني لا أستطيع الحصول على الدواء بسبب النقص وأنهم يضطرون لإعطاء الأولوية لمن كانوا يتلقون العلاج منذ فترة أطول.» ثم أضافت: «حياتي في خطر، وأريد أن أتمكن من رعاية أطفالي ورؤية أحفادي يومًا ما».

إضافة إلى ذلك، يفتك سرطان عنق الرحم بعدد متزايد من النساء، يقارب في حجمه وفياته الناتجة عن وفيات الأمهات، وهو مرض مروّع ومؤلم، وأحيانًا يُشخّص من رائحة اللحم المتعفن.

إحدى الخطوات المثيرة في مسيرة الصحة العالمية كانت تكثيف الجهود للقضاء على سرطان عنق الرحم عبر اللقاحات التي توفرها «التحالف العالمي للقاحات والتحصين» إضافة إلى الفحوص المبكرة. فاختبارات «مسحة باب» ليست متاحة على نطاق واسع في الدول الفقيرة، لكن هناك بديلا زهيدا يُعرف بـ«اختبار الخل»، حيث يُمسح عنق الرحم بالخل، فيُظهر الآفات ما قبل السرطانية التي يمكن تجميدها بأداة بسيطة. هذه الرعاية المنقذة للحياة تقدمها منظمة إم إس آي لاختيارات الصحة الإنجابية، وهي مؤسسة دولية تقدم خدمات تنظيم الأسرة والرعاية الصحية للنساء في الدول النامية، وغيرها من مقدمي الخدمات الصحية، لكن مع وقف الولايات المتحدة دعمها لقاحات غافي (التحالف العالمي للقاحات والتحصين)، ولبرامج الصحة الإنجابية، فإن مزيدًا من النساء قد يصبحن محكومات بمصائر مأساوية من الوفاة المؤلمة بسبب سرطان عنق الرحم.

تواجه النساء في الدول النامية أصلًا أعباء لا يمكن تصورها، فهناك زيجات الترضية في موزمبيق لتسوية النزاعات، و«كيّ الصدور» في الكاميرون لتشويه الفتيات حتى يصبحن أقل عرضة للاعتداء، والختان الوحشي في السودان والصومال، وجرائم قتل الزوجات الصغيرات في الهند بسبب خلافات على المهر، وهجمات الأسيد في باكستان، والناسور الولادي، والاتجار بالبشر، والحرمان من التعليم، وفقر الدم بسبب الحيض وسوء التغذية، وهو ما تعانيه نحو 30 في المائة من النساء في سن الإنجاب عالميًا، إضافة إلى زواج طفلة واحدة في مكان ما من العالم كل ثلاث ثوانٍ.

على مدى ربع القرن الماضي، تكثفت الجهود للاستثمار في تعليم الفتيات وتمكينهن، بدافع العدالة أولًا، ثم لأن الفتيات المتعلمات يشكلن الركيزة الأساسية لمجتمعات أكثر ازدهارًا وسلمًا. لكن يبدو أن هذه الرؤية الآن في تراجع، والكلفة ستكون موت مزيد من النساء بلا داعٍ، لكن الخسارة تمتد أيضًا إلى الرجال والفتيان.

غير أن هؤلاء النساء لسن عاجزات. لا تنسَ أبدًا أن النساء الفقيرات في مثل هذه الظروف يظهرن قدرًا استثنائيًا من الصلابة. فبقليل من المساعدة، يستطعن تحقيق إنجازات شبه خارقة، ترفعهن وترفع مجتمعاتهن.

فكرت في ذلك حين التقيت لاجئة كونغولية تُدعى آنا أراكازا، تبلغ من العمر 23 عامًا، خارج كوخها في مستوطنة للاجئين. كانت جالسة على الأرض بجوار ابنها البالغ أربع سنوات، وأدركت تدريجيًا أنها غير قادرة على الوقوف أو المشي. أخبرتني أنها أصيبت بمرض في سن العاشرة أفقدها القدرة على استخدام ساقيها؛ لم تكن تعرف ماهية المرض.

في أبريل من هذا العام، اجتاحت ميليشيا (إم 23) قريتها، فقتلت والديها وأخذت زوجها الذي لم يُرَ منذ ذلك الحين. أخبرتني أن خمسة من الجنود تناوبوا على اغتصابها، وطعنها أحدهم في ساقها. كما سرقوا كرسيها المتحرك. قالت: «قررت الفرار... زحفًا».

كانت أحيانًا تحصل على توصيلة بدراجة نارية، لكن معظم الرحلة التي امتدت نحو 100 ميل قطعتها زحفًا، وابنها إلى جوارها. وعندما وصلت إلى أوغندا، تولت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين مساعدتها، لكن تخفيضات الميزانية جعلتها عاجزة عن توفير الكراسي المتحركة أو الدعم اللازم لذوي الإعاقة مثل أراكازا.

لا تزال أراكازا تعاني من ألم الطعنة، وأحيانًا تعاني من فقدان التحكم بالتبول. لكني حين أنظر إليها لا أرى فقط معاناتها، بل قبل كل شيء صمودها. لقد أنقذت ابنها، ورغم كل الصعوبات وجدت طريقًا إلى الأمان. تخيل ما يمكن أن تفعله نساء بصلابتها وعزيمتها إذا ما أُتيح لهن التعليم والموارد والدعم، ولو كان بسيطًا مثل كرسي متحرك.


نقلاً عن صحيفة عمان 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية