مأساة الروهينغا المستمرة.. هل يحسم القانون الدولي مصير العدالة في ميانمار؟
مأساة الروهينغا المستمرة.. هل يحسم القانون الدولي مصير العدالة في ميانمار؟
منذ عقود، تمثل أزمة الروهينغا في ميانمار واحدة من أعقد المآسي الإنسانية في آسيا، إذ تداخلت فيها سياسات التمييز الديني والعرقي مع الإفلات من العقاب وتراخي المجتمع الدولي. ورغم تعاقب الإدانات، فما زال أكثر من مليون لاجئ يعيشون في مخيمات مزدحمة في بنغلاديش، في حين يواجه مئات الآلاف ممن بقوا داخل ميانمار أوضاعاً وُصفت من قبل الأمم المتحدة بأنها أشبه بالعيش في "أكبر سجن مفتوح في العالم".
وخلال اجتماعات الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان في جنيف ارتفعت الأصوات الحقوقية والدولية المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات المنهجية بحق الروهينغا وسائر الأقليات.
انتهاكات ممنهجة وجرائم محتملة ضد الإنسانية
منظمات دولية عدة، منها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، وثّقت منذ سنوات سلسلة من الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الميانماري وقوات الأمن، تراوح بين القتل الجماعي والحرق العمد للقرى، والاغتصاب الممنهج بحق النساء والفتيات، والتهجير القسري الذي بلغ ذروته في أحداث أغسطس 2017. آنذاك فرّ أكثر من 700 ألف من الروهينغا إلى بنغلاديش خلال أشهر قليلة، في موجة نزوح جماعي عدتها الأمم المتحدة "مثالاً نموذجياً للتطهير العرقي".
ورغم الإدانات المتكررة، لم تتم محاسبة أي مسؤول عسكري رفيع حتى الآن، الأمر الذي وصفه الحقوقيون بأنه تكريس لسياسة "الإفلات من العقاب" الممتدة منذ عقود.
أصوات الضحايا والمجتمع المدني
في الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان بجنيف، وفي مؤتمر رفيع المستوى عقد على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، عرض مدافعون بارزون من ميانمار شهادات صادمة عن استمرار معاناة الروهينغا والأقليات الأخرى، وأكد تون خين، رئيس منظمة الروهينغا البورمية في المملكة المتحدة، أن الناجين من الإبادة الجماعية عام 2017 "لا يزالون ينتظرون العدالة منذ ثماني سنوات"، مضيفاً أن "تأخير العدالة هو شكل من أشكال الحرمان منها".
قاد خين جهوداً قانونية لتقديم دعاوى قضائية خارج ميانمار، منها قضية في الأرجنتين بموجب مبدأ "الولاية القضائية العالمية"، إضافة إلى متابعات أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، لكنه أبدى قلقه من بطء الإجراءات مقارنةً بقضايا أخرى حظيت بمتابعة سريعة، مثل إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
من جهتها، نقلت لاكي كريم، المدافعة عن حقوق نساء الروهينغا ومؤسسة منظمة "لاجئات من أجل السلام والعدالة"، صوت آلاف النساء العالقات في مخيمات كوكس بازار في بنغلاديش، وتحدثت عن الاكتظاظ وغياب الحماية وخصوصاً الأطفال والنساء، مؤكدة أن العدالة لا تقتصر على المحاسبة بل تشمل ضمان الحقوق الأساسية والتمثيل الفعّال.
أقليات أخرى في مرمى الانتهاكات
الأزمة لم تقتصر على الروهينغا وحدهم، فقد واجهت أقليات أخرى، مثل جماعة تشين المسيحية، عنفاً واسعاً بعد انقلاب 2021، ونزح أكثر من نصف سكان ولاية تشين بسبب القصف والعمليات العسكرية، في حين وثقت منظمات محلية استهداف الكنائس والمدارس والمستشفيات، واعتبر سالاي زا أوك لينغ، المدير التنفيذي لمنظمة تشين لحقوق الإنسان، أن ما يجري يهدد الوجود ذاته لمجتمعه، وقد رفعت منظمته شكاوى جنائية في دول أخرى، مثل الفلبين، مستندة إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية.
ردود الأمم المتحدة والمنظمات الدولية
المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك وصف الوضع الحالي بأنه "الأسوأ على الإطلاق بالنسبة للروهينغا والأقليات الأخرى"، داعياً مجلس الأمن إلى إحالة الملف كاملاً للمحكمة الجنائية الدولية، وأكد أن غياب العدالة يقوض أي فرصة للسلام المستدام.
الأمم المتحدة بدورها وثقت عبر أكثر من 15 تقريراً ومئات المقابلات مع الضحايا والشهود أدلة دامغة على الانتهاكات واسعة النطاق، وأوصت مراراً بفرض عقوبات دولية وتقييد تعاملات الدول مع الجيش الميانماري، لكن الانقسامات داخل مجلس الأمن، خصوصاً مواقف الصين وروسيا، حالت دون تبني قرار حاسم بالإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية.
القانون الدولي والمسؤولية الجنائية
وفقاً لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، فإن ما ارتكب ضد الروهينغا يرقى إلى جرائم إبادة، خاصة مع توافر عناصر "القصد الخاص" في الاستهداف على أساس الهوية العرقية والدينية، وفي عام 2019، أصدرت محكمة العدل الدولية أوامر مؤقتة تلزم ميانمار باتخاذ إجراءات لحماية الروهينغا من الإبادة. غير أن تقارير لاحقة للأمم المتحدة أكدت عدم التزام السلطات الميانمارية بهذه التدابير.
أما المحكمة الجنائية الدولية فقد فتحت تحقيقاً أولياً في الجرائم المتعلقة بالتهجير القسري إلى بنغلاديش، الدولة الموقعة على نظام روما الأساسي، ما يمنحها اختصاصاً محدوداً. لكن حقوقيين يطالبون بتوسيع التحقيق ليشمل الجرائم المرتكبة داخل ميانمار نفسها.
الأبعاد الإنسانية للأزمة
الأرقام الإنسانية تعكس عمق الكارثة، حيث يعيش أكثر من مليون لاجئ روهينغي في ظروف صعبة في بنغلاديش، منهم ما يزيد على نصف مليون طفل، وفي الداخل، يعيش نحو 600 ألف شخص في ولاية راخين تحت قيود مشددة على التنقل والحصول على الخدمات الأساسية، وتحولت المخيمات التي أُنشئت للنازحين منذ 2012 إلى أماكن احتجاز طويلة الأمد، تفتقر إلى المياه النظيفة والرعاية الصحية والتعليم.
وفق تقارير حديثة، يعاني آلاف من سوء التغذية الحاد، في حين تزايدت المخاطر على النساء والأطفال بسبب الاتجار بالبشر والعنف الجنسي، وتُعد الأوضاع في كوكس بازار من بين أكثر الأزمات الإنسانية تمويلاً بشكل ناقص في العالم، حيث أعلنت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن فجوات تمويلية تتجاوز 50% من الاحتياجات السنوية.
جدلية العدالة والعودة الآمنة
إحدى المعضلات الأساسية في الملف تتمثل في العودة الطوعية والآمنة للروهينغا، وتضغط حكومة بنغلاديش التي تتحمل العبء الأكبر من استضافة اللاجئين، لإيجاد حلول دائمة، لكن غياب الضمانات الأمنية ورفض السلطات الميانمارية منح الروهينغا الجنسية يعرقل أي خطط للعودة، ويرى كثير من اللاجئين أن العودة من دون ضمانات للحقوق تعني العودة إلى "دوامة جديدة من الاضطهاد".
مسؤولية المجتمع الدولي
منظمات المجتمع المدني تؤكد أن أي عملية سلام أو مصالحة في ميانمار لن تنجح ما لم تقترن بمساءلة تشمل الجيش والميليشيات المتحالفة معه وأي جماعات مسلحة أخرى ارتكبت انتهاكات، وتطالب هذه المنظمات بتفعيل مبدأ "عدم الإفلات من العقاب" عبر آليات قضائية دولية، إضافة إلى تعزيز الحماية الإنسانية العاجلة للمدنيين.
كما أن استمرار المأساة، بعد ست سنوات من أحداث 2017، يكشف عن ثغرات بنيوية في النظام الدولي للعدالة، حيث لا تزال المصالح السياسية للدول الكبرى تعرقل تحقيق العدالة للضحايا.
قضية الروهينغا ليست أزمة إنسانية فحسب، بل اختبار حقيقي لمدى فاعلية القانون الدولي في مواجهة الجرائم الجماعية، ومع استمرار الانتهاكات في ميانمار بحق الروهينغا والأقليات الأخرى، يتجدد السؤال الملح: هل يستطيع المجتمع الدولي تجاوز الحسابات السياسية والتحرك لإنهاء عقود من الإفلات من العقاب، أم ستظل العدالة مؤجلة، ويظل مئات الآلاف من الضحايا رهائن للمأساة؟