بلوغ الثامنة عشرة وفقدان الحرية.. معركة أمريكية جديدة حول حق القُصّر في الحماية
القضاء يكبح ممارسات إدارة ترامب
في قرارٍ يحمل بُعدًا قانونيًا وإنسانيًا بالغ الأهمية، أوقف القاضي الفيدرالي رودولف كونتريراس سياسةً جديدة لإدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، كانت تُتيح احتجاز الأطفال المهاجرين غير المصحوبين بذويهم في مراكز احتجاز البالغين بمجرد بلوغهم سن الثامنة عشرة.
جاء الحكم الصادر من محكمة واشنطن العاصمة في لحظةٍ حاسمة، إذ كان من المقرر -وفق المدافعين عن حقوق المهاجرين- أن تبدأ عمليات النقل إلى مراكز احتجاز البالغين في نهاية الأسبوع ذاته، في خطوة اعتُبرت خرقًا صريحًا لأمر قضائي سابق صدر عام 2021 يحظر مثل هذه الممارسات.
ولم يكن القرار الذي أصدره كونتريراس، وفق ما نقلته صحيفة "واشنطن بوست"، مجرد خطوة إجرائية، بل كان دفاعًا مباشرًا عن سيادة القانون وحقوق الإنسان، فقد وجّه القاضي أمرًا تقييديًا مؤقتًا إلى هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE)، يمنعها من احتجاز أي طفل مهاجر غير مصحوب في مراكز البالغين بمجرد بلوغه سن الرشد.
وأكد القاضي أن هذه الممارسة تنتهك أمرًا قضائيًا سابقًا ألزم الحكومة الفيدرالية بإطلاق سراح القاصرين الذين يبلغون 18 عامًا إلى “أقل الأماكن المتاحة تقييدًا” ما لم يشكلوا خطرًا على أنفسهم أو على الآخرين، وهو ما يتفق مع مبدأ "المصلحة الفضلى للطفل" المعترف به دوليًا في اتفاقية حقوق الطفل.
لكن، وبالرغم من هذا الإلزام، تشير الشهادات التي أوردتها الغارديان إلى أن إدارة الهجرة والجمارك كانت قد أصدرت تعليمات داخلية تطلب من الملاجئ التوقف عن إطلاق سراح من يقتربون من بلوغ الثامنة عشرة، استعدادًا لنقلهم إلى مراكز احتجاز البالغين، حتى في الحالات التي تمت الموافقة فيها مسبقًا على خطط إطلاق سراحهم.
ضغوط مالية على الأطفال المهاجرين
قبل يوم واحد فقط من صدور الحكم، كانت الإدارة الأمريكية قد طرحت برنامجًا مثيرًا للجدل، بحسب ما كشفت بوليتيكو والغارديان: عرض مبلغ 2500 دولار على القاصرين المهاجرين مقابل "الترحيل الذاتي" إلى بلدانهم الأصلية.
وقدّمت إدارة الهجرة والجمارك البرنامج باعتباره "خيارًا طوعيًا"، إلا أن منظمات حقوقية رأت فيه وسيلة ضغط مالية غير أخلاقية تستهدف إجبار الأطفال على التخلي عن مطالبهم القانونية، ومنها حق اللجوء أو الحماية الإنسانية.
وقالت ميشيل لابوانت، المديرة القانونية في المجلس الأمريكي للهجرة، إن "هذه السياسات تضع الأطفال في موقع الاختيار بين الفقر والحرية، وبين الخطر في بلدانهم الأصلية أو الاحتجاز في سجون البالغين بالولايات المتحدة"، مضيفةً أن العرض المالي "ليس خيارًا حرًا عندما يكون البديل هو القيد".
تُظهر المعطيات التي جمعتها "واشنطن بوست" وأكدتها "بوليتيكو" أن قضية الاحتجاز ليست حادثة منفصلة، بل حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة ضد الأطفال المهاجرين.
فقد وثقت منظمات الهجرة أن مسؤولي هيئة الهجرة والجمارك كانوا قد باشروا عمليات تفتيش واسعة في أنحاء البلاد لتعقب القاصرين غير المصحوبين أو الكفلاء الذين يوفرون لهم المأوى القانوني، بهدف رفع دعاوى ضدهم أو ترحيلهم.
وفي عدد من الحالات، لجأت السلطات إلى فصل الأطفال عن ذويهم أو أقاربهم بحجة أنهم "قاصرون غير مصحوبين"، في ممارسة وصفتها "الغارديان" بأنها "إعادة إحياء غير معلنة لسياسات الفصل العائلي" التي واجهت انتقادات واسعة في عهد ترامب الأول.
الملاجئ بين القانون والبيروقراطية
بموجب القانون الفيدرالي الأمريكي، يُفترض أن يكون الأطفال غير المصحوبين تحت إشراف مكتب إعادة توطين اللاجئين التابع لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية، وليس ضمن نطاق إدارة الهجرة والجمارك.
لكن تطبيق هذا المبدأ اصطدم بواقع بيروقراطي معقد، حيث أضافت الحكومة منذ عام 2021 طبقات جديدة من الإجراءات الأمنية قبل إطلاق سراح القاصرين، مثل بصمات الأصابع وفحوص الحمض النووي والزيارات المنزلية للكفلاء المحتملين.
هذه التدابير، بحسب التقارير، أطالت متوسط فترة الاحتجاز بشكل كبير، فبعد أن كان الطفل يمكث في المأوى نحو 37 يومًا في يناير 2025، ارتفع المتوسط إلى أكثر من 170 يومًا في يوليو، ما يعني عمليًا حرمان القاصرين من الحرية لأشهر دون تهمة أو محاكمة.
البعد الحقوقي للقضية
من منظور حقوقي، يمسّ هذا الملف جوهر التزامات الولايات المتحدة الدولية في مجال حماية الأطفال والمهاجرين، فالاحتجاز التعسفي للقُصّر، أو عرض المال مقابل التنازل عن الحقوق القانونية، يمثلان انتهاكًا واضحًا للمادة 37 من اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على أنه "لا يُحتجز أي طفل إلا ملاذاً أخيراً، ولأقصر فترة زمنية مناسبة".
كما أن قرار القاضي كونتريراس يستند في جوهره إلى مبدأ “القيود الدنيا” الذي يضمن أن أي احتجاز يجب أن يكون متناسبًا وضروريًا فقط، لا أن يتحول إلى عقوبة جماعية أو وسيلة ردع.
ويرى خبراء قانونيون أن الحكم الأخير يذكّر الإدارة الأمريكية بأن سياسات الهجرة ليست معركة أمنية فحسب، بل أيضًا اختبار لاحترام سيادة القانون وكرامة الإنسان.
أصوات من الداخل
قال رئيس ائتلاف نيويورك للهجرة، مراد عواودة، في تصريح لـ"الغارديان": “الفوضى التي تنطوي عليها هذه السياسة ستدمر الأسر والمجتمعات. وهي سياسة تستهدف الأطفال لتخويفهم وإجبارهم على العودة إلى المجهول، دون أن يُمنحوا حقهم في المحاكمة العادلة”.
وفي المقابل، رفضت هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE) التعليق على القرار القضائي، مكتفية ببيان مقتضب قالت فيه إن برامجها "تلتزم بالقانون الفيدرالي وتعمل على تحقيق الأمن القومي"، وهو رد اعتبرته منظمات حقوقية محاولةً لتجنب المساءلة.
يُعدّ حكم كونتريراس انتصارًا رمزيًا مهمًا لمناصري حقوق المهاجرين، لكنه لا يُنهي المعركة، فالقرار مؤقت، ومن المتوقع أن تعود القضية إلى أروقة المحاكم خلال الأسابيع المقبلة مع استمرار الجدل حول سلطة الحكومة في احتجاز البالغين الجدد.
غير أن الرسالة الأهم، كما تراها المنظمات الحقوقية، هي أن القضاء الأمريكي لا يزال قادرًا على إيقاف الانتهاكات حتى في أكثر الملفات حساسية، وأن العدالة لا تزال ممكنة حين تُرفع الأصوات دفاعًا عن الأضعف، فالطفل الذي يعبر الحدود هربًا من العنف ينبغي ألا يُكافأ بالقيود، بل يُعامل معاملة "بالغ" في اليوم الذي يحتفل فيه ببلوغه الثامنة عشرة.