أسطول الصمود العالمي بين الحصار والترحيل.. اختبار جديد للقانون الدولي وحرية العمل الإنساني

أسطول الصمود العالمي بين الحصار والترحيل.. اختبار جديد للقانون الدولي وحرية العمل الإنساني
سفن أسطول الصمود - أرشيف

منذ انطلاقه مطلع سبتمبر الماضي من السواحل الإسبانية، أثار "أسطول الصمود العالمي" اهتماماً واسعاً، حيث حملت أكثر من 45 سفينة على متنها مئات النشطاء من أكثر من أربعين دولة، بينهم أطباء وبرلمانيون وناشطون بيئيون وسياسيون مثل النائبة الأوروبية الفرنسية ريما حسن والناشطة السويدية غريتا تونبرغ. 

هدف الأسطول الإنساني كان كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ سنوات طويلة وإيصال مساعدات إنسانية عاجلة تشمل حليب أطفال ومواد غذائية وأدوية أساسية، لكن هذه الرحلة تحولت سريعاً إلى أزمة دبلوماسية وإنسانية بعدما اعترضته البحرية الإسرائيلية واعتقلت أكثر من 400 ناشط.

ترحيل جماعي في اتجاه أثينا

أعلنت وزارات خارجية اليونان وفرنسا وإيطاليا أن نحو 75 ناشطاً من مواطنيها كانوا مشاركين في أسطول الصمود سيُرحّلون إلى العاصمة اليونانية أثينا بعد توقيفهم في إسرائيل بحسب فرانس برس، وأوضح وزير الخارجية اليوناني أن 27 من مواطنيه في صحة جيدة وسينقلون على متن رحلة خاصة من مطار رامون قرب إيلات، أما الخارجية الفرنسية فأكدت أن 30 فرنسياً كانوا ضمن الأسطول، بينهم ثمانية وعشرون محتجزون، بعضهم مسجَّل بجنسيات مزدوجة، في حين عبر حزب "فرنسا الأبية" عن قلقه بشأن سلامة أربعة برلمانيين كانوا على متن السفن.

وفي إيطاليا، أشار وزير الخارجية أنطونيو تاياني إلى أن 15 ناشطاً إيطالياً ما زالوا في إسرائيل سيعودون على متن رحلة تجارية إلى أثينا، بعدما رفضوا التوقيع على استمارات الإفراج الطوعي، في حين عاد 26 آخرون في وقت سابق إلى روما، وقد شكا بعض العائدين من "معاملة مهينة" خلال توقيفهم، وأكد أحد الصحفيين أنه تعرض للضرب ووصف المعاملة بأنها "كأننا حيوانات في سيرك قديم".

احتجاجات متفرقة في أوروبا

الحدث أثار تظاهرات متزامنة في عواصم أوروبية عدة، وفي أثينا احتشد العشرات أمام السفارة الإسرائيلية، في حين نظّم نحو ألف شخص تظاهرة في ساحة سينتاغما دعماً للفلسطينيين، كما شهدت مدن أوروبية أخرى، من بينها باريس وروما ومدريد، تجمعات تضامنية انتقدت اعتراض الأسطول واعتقال المشاركين فيه، معتبرة أن ذلك يقيّد التضامن المدني مع غزة ويعرقل العمل الإنساني.

ردود الفعل الرسمية 

بينما أكدت الحكومات الأوروبية الثلاث أنها تتابع من كثب أوضاع مواطنيها، شددت على ضرورة تأمين عودتهم "في أقرب الآجال"، الخارجية الفرنسية أرسلت فرقاً قنصلية إلى مراكز الاحتجاز، في حين تحدث وزير الخارجية الإيطالي عن "ساعات حاسمة لتعزيز جهود السلام"، ورغم التصريحات الحذرة، ارتفعت أصوات داخل البرلمانات الأوروبية تطالب بمساءلة إسرائيل حول قانونية اعتراض سفن تحمل مساعدات إنسانية متجهة إلى منطقة محاصرة.

القانون الدولي ومبدأ حرية الملاحة الإنسانية

اعتراض "أسطول الصمود" يثير جدلاً قانونياً قديماً متجدداً. فوفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تتمتع السفن المدنية بحق الملاحة في المياه الدولية، ولا يجوز اعتراضها إلا في حالات محدودة مثل القرصنة أو التهريب، واعتبرت منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" أن اعتراض السفن الإنسانية يطرح تساؤلات حول مدى احترام إسرائيل للقانون الدولي الإنساني، خصوصاً أن غزة تعاني من أزمة إنسانية خانقة وصفتها الأمم المتحدة بأنها "كارثة غير مسبوقة".

القانون الدولي الإنساني يفرض على الدول المتحاربة السماح بمرور المساعدات إلى المدنيين المحتاجين، شرط خضوعها للتفتيش الأمني، لكن المنظمات الحقوقية ترى أن منع قوافل الإغاثة أو تقييد وصولها يرقى إلى شكل من أشكال العقاب الجماعي المحظور بموجب اتفاقيات جنيف.

السياق الإنساني في غزة

الناشطون الذين شاركوا في الأسطول أكدوا أن دوافعهم إنسانية بالدرجة الأولى، فالأمم المتحدة حذرت مراراً من انتشار المجاعة في قطاع غزة حيث يعيش أكثر من مليوني نسمة تحت حصار مشدد منذ أكتوبر 2023، وتعرضت البنية التحتية الأساسية للتدمير نتيجة العمليات العسكرية المستمرة، وتحدثت تقارير أممية صدرت في أغسطس الماضي عن وصول مستويات سوء التغذية إلى حدّ الكارثة، مع نقص حاد في حليب الأطفال والأدوية الأساسية، في حين يعيش مئات الآلاف من النازحين في مدارس متهالكة أو مخيمات مؤقتة.

أبعاد سياسية أوسع

الحدث لم يبق في إطاره الإنساني، بل ألقى بظلاله على النقاش السياسي الأوروبي حول الحرب في غزة،فبينما تتبنى الحكومات الغربية خطاباً مزدوجاً يدعو إلى "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" مع التأكيد على "ضرورة حماية المدنيين"، فإن مواقف الشعوب الأوروبية أكثر ميلاً إلى التضامن مع الفلسطينيين، وهذا التباين تجلى بوضوح في حجم التظاهرات المؤيدة لغزة في العواصم الأوروبية، وفي الأصوات البرلمانية المطالبة بوقف صادرات السلاح إلى إسرائيل.

من جهة أخرى، تستغل إسرائيل الحادثة لتوجيه رسائل أمنية واضحة مفادها أنها لن تسمح بأي محاولات لكسر الحصار من البحر، معتبرة أن ذلك قد يفتح ثغرات أمنية خطرة، وفي المقابل، يرى ناشطون أن ترحيلهم القسري يهدف إلى ردع مبادرات مدنية مماثلة في المستقبل.

سوابق تاريخية مشابهة

هذه الحادثة تعيد إلى الأذهان واقعة "أسطول الحرية" عام 2010، حين هاجمت القوات الإسرائيلية سفينة "مافي مرمرة" التركية في المياه الدولية، ما أسفر عن مقتل عشرة ناشطين، آنذاك اندلعت أزمة دبلوماسية حادة بين إسرائيل وتركيا، ووجهت انتقادات دولية واسعة لتل أبيب بشأن استخدام القوة المفرطة ضد مدنيين عزّل، ورغم مرور أكثر من عقد على تلك الواقعة، فإن المشهد يتكرر اليوم في ظل استمرار الحصار البحري والبري المفروض على غزة.

ترحيل الناشطين قد يطفئ جانباً من الأزمة الآنية، لكنه يترك وراءه أسئلة مفتوحة: هل سيمنع ذلك مبادرات جديدة للتضامن المدني؟ وهل تستطيع الدول الأوروبية تجاهل مطالب مواطنيها بالضغط على إسرائيل لرفع الحصار؟ على الصعيد الدبلوماسي، قد تستغل قوى سياسية مناهضة للحكومات الحالية هذه الأحداث لتعزيز خطابها المناصر للفلسطينيين، في حين تحاول الحكومات الموازنة بين علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل وضغوط الرأي العام الداخلي.

بين السياسة والإنسانية

يبقى البعد الإنساني هو الأشد إلحاحاً، فكلما تأخرت المساعدات في الوصول إلى غزة، تفاقمت معاناة المدنيين، وتعمقت الهوة بين الخطاب الدولي حول "حل الدولتين" والواقع القائم على الأرض. حادثة "أسطول الصمود" تمثل اختباراً مزدوجاً: اختباراً لإرادة المجتمع الدولي في حماية المبادرات الإنسانية، واختباراً لمصداقية القانون الدولي في وجه سياسات الحصار والحروب الطويلة.

حادثة اعتراض "أسطول الصمود العالمي" وترحيل عشرات النشطاء تكشف عن مفارقة قاسية: في حين يتصاعد الخطاب الرسمي الغربي الداعي إلى "حل سياسي" و"مساعدات إنسانية عاجلة"، تتعطل المبادرات المدنية التي تسعى لإيصال هذه المساعدات على الأرض، وبينما تواصل إسرائيل فرض حصارها الصارم على غزة، يبقى المدنيون الفلسطينيون هم الحلقة الأضعف في معادلة معقدة تتشابك فيها الحسابات الأمنية بالرهانات السياسية، وفي النهاية، لا يبدو أن ترحيل الناشطين سيوقف محاولات التضامن العالمي، لكنه يسلط الضوء على ثغرات كبيرة في نظام حماية حقوق الإنسان الدولي، ويضع الحكومات أمام امتحان عسير بين التزاماتها السياسية وتحركات شعوبها. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية