حقوق الإنسان في ليبيا.. نزيف متواصل تحت أنقاض الانقسام والإفلات من العقاب
حقوق الإنسان في ليبيا.. نزيف متواصل تحت أنقاض الانقسام والإفلات من العقاب
في العام الرابع عشر من الاضطرابات المستمرة، لا تزال ليبيا ترزح تحت وطأة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وسط انقسام سياسي عميق وهيمنة الميليشيات المسلحة وتآكل مؤسسات العدالة، ورغم الوعود المتكررة بالإصلاح، تؤكد تقارير المنظمات الدولية والحقوقية أن البلاد تعيش واحدة من أسوأ أزماتها الإنسانية منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، وبينما يقترب موعد الاستعراض الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2025، تتكاثف الدعوات الدولية لمساءلة السلطات الليبية عن سجلها الحقوقي المتدهور وإنشاء آليات فعالة للعدالة والمحاسبة.
وأفاد تقرير نشرته شبكة "impactpolicies" بأنه بعد الاستعراض الدوري الشامل السابق في عام 2020، قبلت ليبيا عدداً كبيراً من التوصيات المتعلقة بإصلاح القضاء وحماية حرية التعبير وتفعيل المساءلة، لكن الواقع على الأرض بقي مختلفاً تماماً، فقد أكدت اللجنة الدولية للحقوقيين أن السلطات الليبية، سواء في الشرق أو الغرب، لم تُظهر إرادة حقيقية لتنفيذ الإصلاحات، بل لجأت إلى تكثيف حملاتها القمعية ضد النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وذكرت اللجنة الدولية للحقوقيين، أن السلطات الليبية تشن حملة قمع متواصلة على فاعلي المجتمع المدني، كما تستخدم تشريعات قديمة من عهد القذافي لتقييد حرية التنظيم والتعبير، وأدى هذا المناخ القمعي إلى إغلاق العديد من منظمات المجتمع المدني، واعتقال العشرات من النشطاء والصحفيين دون محاكمات عادلة.
ثقافة الإفلات من العقاب
ومن جانبها، ترسم منظمة العفو الدولية، في تقريرها المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان في أكتوبر 2025، صورة قاتمة لانتهاكات واسعة النطاق تشمل الاحتجاز التعسفي، والتعذيب، والاختفاء القسري، والقتل خارج نطاق القانون، واستهداف النساء والمهاجرين والأقليات، وتؤكد المنظمة أن هذه الانتهاكات تمارسها جماعات مسلحة تدير مراكز احتجاز بمعرفة أو تواطؤ قوات الأمن الرسمية.
وتتحدث تقارير المنظمات الأممية عن وجود أكثر من 12 ألف شخص رهن الاحتجاز في ليبيا دون محاكمة، بينهم مئات النساء والمهاجرين، بينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بسبب النزاعات المسلحة وغياب سيادة القانون.
وفي واحدة من أكثر الحوادث دلالة على انهيار مؤسسات العدالة، تم الكشف مؤخراً عن 67 جثة مجهولة الهوية كانت مخزّنة في مستشفيات منذ عام 2021، من دون أن تُفتح تحقيقات جدية بشأنها، كما أثار مقطع فيديو مُسرّب يُظهر تعذيب عضو مجلس النواب إبراهيم الدرسي، المفقود منذ أكثر من عام، صدمة واسعة بين الحقوقيين والمواطنين على حد سواء.
وبحسب محكمة العدل الدولية، فإن هذه الوقائع تعكس نمطاً منهجياً من انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة دون عقاب، تؤثر بشكل غير متناسب على النساء والمهاجرين واللاجئين والأقليات.
الجنائية الدولية والعدالة الغائبة
من الناحية القانونية، تخضع ليبيا لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية في ما يتعلق بالجرائم الخطيرة المرتكبة منذ عام 2011، ومع ذلك، ظل التعاون مع المحكمة محدوداً للغاية، وبحسب تقارير رسمية، ما زال شخصان متهمان بارتكاب جرائم حرب في مدينة ترهونة محتجزين داخل ليبيا دون تسليم، بينما لا يزال مطلوب ثالث حراً طليقاً رغم أوامر القبض الصادرة بحقه.
هذا التقاعس عن التعاون يثير تساؤلات حول مدى استعداد السلطات الليبية للسعي نحو العدالة، ولهذا دعت اللجنة الدولية للحقوقيين مجلس حقوق الإنسان إلى إنشاء آلية مراقبة مستقلة أو تعيين مقرر خاص معني بليبيا، لضمان المساءلة وتوثيق الانتهاكات المستمرة.
يُفاقم الانقسام السياسي بين سلطات الشرق والغرب في ليبيا من حالة الانفلات الأمني وغياب المساءلة، فكل طرف يدير مناطق نفوذه من خلال تحالفات مع جماعات مسلحة، غالباً ما تتورط في انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، وتشير تقارير بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (أونسميل) إلى أن الصراع على السلطة والموارد النفطية أسهم في تقويض أي محاولة لبناء مؤسسات موحدة للدولة.
منظمة مراقبة جرائم ليبيا (LCW) وثقت في أغسطس 2025 عشرات الحالات من الاعتقال التعسفي والقتل خارج القانون، شملت موظفين حكوميين ومدونين وصحفيين، إضافة إلى مقتل أطفال جراء إطلاق النار العشوائي خلال الاشتباكات المسلحة، كما رُصدت زيادة ملحوظة في حوادث غرق المهاجرين أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط، ما يفاقم الكارثة الإنسانية المستمرة على السواحل الليبية.
النساء والمهاجرون
تتحمل النساء والمهاجرون العبء الأكبر من تداعيات الأزمة، فوفق تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان، تعاني آلاف النساء والفتيات من العنف الجنسي، مع غياب شبه كامل لآليات الحماية أو العدالة، كما أن كثيرات يواجهن الاعتقال أو الاحتجاز في ظروف غير إنسانية عند محاولتهن الهرب من مناطق النزاع.
أما المهاجرون واللاجئون، الذين يُقدّر عددهم بنحو 700 ألف شخص في ليبيا، فيعيشون أوضاعاً مأساوية داخل مراكز احتجاز تفتقر إلى أبسط المعايير الإنسانية، وقد وصفتهم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بأنهم ضحايا منظومة متشابكة من الاستغلال والتمييز والعنف، في ظل انعدام الرقابة على ممارسات الميليشيات التي تدير هذه المراكز.
القانون الدولي والمسؤولية
بحسب القانون الدولي الإنساني، تتحمل السلطات الليبية مسؤولية حماية جميع الأشخاص داخل أراضيها من التعذيب وسوء المعاملة، وضمان المحاكمات العادلة، واحترام حرية التعبير والتنظيم، لكن التقارير الأخيرة تؤكد أن ليبيا فشلت في الوفاء بهذه الالتزامات، ما يضعها تحت رقابة مشددة من قبل مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية.
وطالبت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش المجتمع الدولي بالتحرك لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي، من خلال فرض عقوبات محددة على الأفراد المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة، ودعم الجهود المحلية لتوثيق الجرائم وتقديم مرتكبيها إلى العدالة، كما شدد الاتحاد الأوروبي في بيانه الأخير على ضرورة ربط أي دعم سياسي أو مالي لليبيا بإحراز تقدم ملموس في ملف حقوق الإنسان.
منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، دخلت ليبيا مرحلة طويلة من الصراع على السلطة، فبدلاً من تأسيس دولة القانون، تفككت البلاد بين سلطات متنازعة في الشرق والغرب، وقد أدى غياب مؤسسات العدالة إلى استمرار الإفلات من العقاب، في حين تدهورت البنية الاجتماعية والاقتصادية.
أظهرت السنوات الأخيرة أن الحلول العسكرية والسياسية الجزئية لم تفلح في كبح الانتهاكات، بل ساهمت في تعقيدها، ويؤكد خبراء الأمم المتحدة أن السلام الدائم في ليبيا لن يتحقق ما لم يُعالج الملف الحقوقي بشكل جذري، وأن بناء دولة قادرة على حماية مواطنيها يبدأ بإرساء العدالة، وليس بتقاسم النفوذ.