غوربتلي أرسوز.. صوت الحقيقة الذي لم يُطفأ في كردستان
غوربتلي أرسوز.. صوت الحقيقة الذي لم يُطفأ في كردستان
في السابع من أكتوبر عام 1997، خيّم الحزن على المشهد الإعلامي في كردستان بعد استشهاد الصحفية غوربتلي أرسوز، التي كانت آنذاك أول رئيسة تحرير في تاريخ كردستان وتركيا.
لم يكن اغتيالها مجرد حادث سياسي في زمن مضطرب، بل كان محاولة لإسكات صوت أنثوي حرّ تحدّى الصمت والخوف والهيمنة الذكورية في ميادين الإعلام والسياسة.
لكن، بعد ثمانيةٍ وعشرين عاماً، ما زال اسمها يُذكر كرمزٍ للجرأة، وكتجسيدٍ لمعنى الصحافة الحرة التي لا تُقاس بالكلمات المطبوعة فقط، بل بالأثمان التي تُدفع في سبيلها.
الذاكرة والالتزام بالإرث
في ذكرى رحيلها الثامنة والعشرين، أحيت جمعية صحفيات موزوبوتاميا (MKG) وجمعية صحفيي دجلة والفرات (DFG) ذكراها بمراسم احتفاء امتزج فيها الحزن بالفخر، والعزم بالإيمان بأن طريقها لم ينتهِ باستشهادها.
وفي بيانٍ مؤثرٍ أصدرته جمعية صحفيات بلاد ما بين النهرين، جاء أن غوربتلي أرسوز كانت أكثر من مجرد صحفية، كانت "ضمير تاريخ الصحافة الحرة وصوت المرأة المقاوم"، وأنها حولت الصحافة من مهنةٍ إلى رسالةٍ نضاليةٍ دفاعاً عن الحقيقة، معتبرةً أن "الصدق في نقل المعاناة البشرية هو أرقى أشكال الأخلاق المهنية".
قالت الجمعية في بيانها: "من واجبنا الإنساني السير في الطريق الذي مهدت له غوربتلي أرسوز. إرثها ليس حدثاً نحييه كل عام، بل مسيرة نكملها بكل تقريرٍ وسؤالٍ وصورة".
وأكدت أن الكتابة بلغة المرأة اليوم، في عالمٍ ما زال يرزح تحت النظام الذكوري، هي شكل من أشكال المقاومة، وأن تبني كلمات غوربتلي: "لا حرية للناس بدون حرية المرأة"، هو بمثابة عهدٍ متجددٍ للصحفيات اللواتي اخترن الكلمة الحرة طريقاً رغم الصعاب.
كاميرا الشجاعة وقلم الحقيقة
في نظر رفيقاتها، لم تكن غوربتلي أرسوز صحفيةً عادية؛ كانت كاميرتها مرآةً لشجاعة المرأة الكردية، وقلمها سلاحاً في وجه القمع والتمييز.
لقد آمنت بأن الصحافة ليست مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هي منبر للعدالة وصوت للذين لا يُسمع صوتهم. كانت تكتب عن المعتقلين، عن القرى المدمّرة، عن النساء اللواتي يُجبرن على الصمت، وعن وجع أمٍّ فقدت ابنها في الحرب، فدفعت حياتها ثمناً للحقيقة.
اليوم، تقول الصحفيات اللاتي يواصلن دربها إن "كل صورة تُلتقط، وكل تقرير يُنشر، يحمل في طياته شيئاً من شجاعتها"، وإن إرثها أصبح بمثابة "نبضٍ يجري في عروق الصحافة النسائية في كردستان".
يوم الصحفيات الكرديات
وفي بيانٍ منفصل، أكدت جمعية صحفيي دجلة والفرات (DFG) أن ذكرى استشهاد غوربتلي أرسوز أصبحت منذ عام 2014 يوماً خاصاً للصحفيات الكرديات، تقديراً لدورها في كسر القيود التي فرضها المجتمع والسياسة على المرأة الصحفية.
وقالت الجمعية في بيانها: "نُخلّد ذكراها بمشاعر الحب والاحترام والشوق. آلاف النساء اليوم يسرن على خطاها، ونواصل نضالها في كل كلمة تُكتب دفاعاً عن الحرية".
وأشار البيان إلى أن غوربتلي كانت أول امرأة في تركيا وكردستان تتولى منصب رئيسة تحرير، في وقتٍ كانت فيه الصحافة ميداناً ذكورياً مغلقاً أمام النساء، لتتحول تجربتها إلى بصمةٍ تاريخيةٍ في مسيرة التمكين الإعلامي للمرأة.
إرثٌ يتجدد في كل جيل
هذا العام، وفي خطوةٍ رمزية غير مسبوقة، نظّمت الصحفيات في تركيا وكردستان حفل توزيع جوائز مخصص للنساء فقط تكريماً لذكراها، ليكون أول حدث من نوعه يحتفي بالصحافة النسائية ويكرّم الشجاعة في نقل الحقيقة.
جاء هذا الحفل –بحسب المنظمات– ليجسّد عمق تأثير إرث غوربتلي، التي فتحت الأبواب أمام الأجيال الجديدة من الصحفيات لتقول لهن: "لا تخفن من الحقيقة، فهي وحدها التي تمنحك الحرية".
وفي ختام الاحتفالات، صدحت الكلمات كعهدٍ جديد: "ننحني إجلالاً لذكراها، ونحمل في قلوبنا نبضها الذي لا يزال حياً في نضالنا من أجل صحافة حرة وصادقة".
بعد الغياب.. استمرار الحلم
ثمانٍ وعشرون سنة مرّت على رحيل غوربتلي أرسوز، لكن حلمها لم يمت. فكل صحفية كردية تكتب اليوم عن قضيةٍ إنسانية، وكل كاميرا تلتقط مشهداً للحقيقة، إنما تُعيد للحياة شيئاً من تلك المرأة التي رفضت الصمت، ودفعت ثمن كلمتها بدمها.
لقد أصبحت غوربتلي رمزاً لجيلٍ من النساء اللاتي اخترن الكتابة في مواجهة الخطر، وجعلن من الصحافة الحرة معركةً من أجل الكرامة الإنسانية.
وفي ذكراها، لا يُستحضر ماضيها فقط، بل يُستعاد وعدها الدائم: الحرية تبدأ حين تكتب المرأة الحقيقة دون خوف.