"هل أنت حقاً الطبيب؟".. شهادة إنسانية عن العنصرية في هيئة الخدمات الصحية البريطانية
مذكرات ماثيو هاتشينسون
في ممرات المستشفيات البريطانية، حيث يصبح الطبيب الملاذ الأخير لمرضاه، كتب ماثيو هاتشينسون، طبيب الروماتيزم وممثل الكوميديا الارتجالية، مذكراته تحت عنوان يحمل سؤالًا صادمًا: "هل أنت حقًا الطبيب؟".
السؤال لم يكن مجازيًا، بل واقعيًا، طرحه أحد المرضى بينما كان يعاني من صداع حاد، قبل أن يجد وقتًا كافيًا للتشكيك في مهنية طبيبه، كان هاتشينسون يرتدي زيه الطبي، الذي لا يتيح الكثير من المساحة للتعبير الشخصي، لكنه أدرك بسرعة أن التشكيك لم يكن بسبب الزي أو الأداء، بل بسبب لون البشرة، الشعر، أو ببساطة ذلك "الشعور العام" الذي يستدعي التمييز.
بهذا المشهد الافتتاحي، يدخل هاتشينسون إلى قلب معركته: العنصرية في الرعاية الصحية البريطانية، ويكتب عن التحيزات التي يواجهها الأطباء السود من المرضى، وعن التفاوتات التي تسكن الكتب الطبية نفسها، حيث النساء السود أكثر عرضة للوفاة أثناء الولادة بأربع مرات.
ولا يتوقف هاتشينسون عند حدود التجربة الشخصية، بل يضعها في سياق أوسع، ويظهر كيف يمكن أن تهدد العنصرية حياة المرضى وتضعف ثقة الأطباء بأنفسهم.
العرق والتجربة المهنية
في مقابلة مع صحيفة "الغارديان"، بدا هاتشينسون حاضر الذهن، أنيق المظهر حتى في أبسط ملابسه، يشرح أنه شعر بأن عليه كتابة هذا الكتاب عن العِرق والتجربة المهنية، لكنه يقر أيضًا بأنه لم يكن الصوت الوحيد المهم في هذه الساحة، وتحدث إلى طبيبات وزملاء من خلفيات غير بيضاء، فكان الجواب المفاجئ: "في الواقع، الشيء الأكثر عدائية لي هو كوني امرأة".
يذكر هاتشينسون ذلك وهو يستحضر قصة زوجته، لويز، وهي طبيبة عامة، تعاني من قلة احترام متكررة تصل أحيانًا من زملاء في القطاع الصحي نفسه، أما عن الأطباء ذوي الإعاقة، فيعترف أنه طوال مسيرته المهنية لم يلتقِ سوى طبيب واحد ضعيف السمع، في وقت لم يُكتب فيه بعد أي كتاب يتناول تجربة الأطباء من ذوي الاحتياجات الخاصة.
هذا الميل إلى النظر من كل زاوية، كما يصفه هاتشينسون، هو لعنة ونعمة في آن واحد، لعنة لأنه يجبره على تفكيك كل تفصيل صغير، ونعمة لأنه يعكس نوعية الطبيب الذي أصبح عليه: طبيب قادر على التعامل مع الغموض، وهو ما يفسر انجذابه إلى طب الروماتيزم، التخصص الذي يضع الألم المجهول في قلب اهتماماته.
في عمر الثامنة والثلاثين، يقف هاتشينسون على أعتاب أن يصبح استشاريًا، بعد رحلة طويلة بدأت منذ سنواته الأولى كطبيب مقيم في هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
فترة مليئة بالإرهاق والإحباط
لكن قبل أن يصل إلى هذه النقطة، كان عليه أن يواجه مزيجًا من الضغوط المهنية والتمييز الاجتماعي، في منتصف العقد الثاني من الألفية، عمل مسؤولًا مقيمًا أول، وهي فترة وصفها بأنها مليئة بالإرهاق والإحباط.
كان يشعر بالاستياء من الطب أحيانًا، يبحث عن متنفس مختلف، حتى وجد نفسه في عالم الكوميديا الارتجالية، هناك، اكتشف أن الوقوف أمام جمهور ومحاولة إقناعهم يشبه إلى حد كبير عمله في المستشفى: إقناع الآخرين بأنهم في أيدٍ أمينة.
ومع أن عروضه غالبًا ما كانت مضحكة، فإنه لم يكتب ليُضحك بقدر ما كتب ليظهر حقيقة الألم، كما في وصفه لمعاناة مريض الذئبة، بدقة تجعل القارئ يلمس الألم كما لو كان حاضرًا بجانبه.
ارتبطت رحلة هاتشينسون الشخصية منذ البداية بمسألة العرق والانتماء، والده جاء إلى برمنغهام من جامايكا في التاسعة عشرة، والدته اسكتلندية، كلاهما من علماء الكيمياء الحيوية.
العنصرية مشهد متكرر
نشأ في جنوب شرق لندن، قريبًا من منطقة إيلثام التي عُرف فيها مقتل ستيفن لورانس، حيث كانت العنصرية مشهدًا متكررًا، لكن التجربة الأشد وقعًا جاءت في مراهقته أثناء رحلة تخييم إلى كورنوال، حين حاول بعض المراهقين المحليين استفزازه بعبارة عنصرية مباشرة: "ماذا تفعل هنا، أيها الحصان الأسود؟".
هذه الذكرى ظلت تطارده حين التحق بالطب، مدركًا أن هيئة الخدمات الصحية قد تُرسله في سنواته الأولى إلى مناطق ريفية أحادية الثقافة، حيث يُذَكَّر المهاجرون دومًا بحدود انتمائهم.
كشف له عامه الأول في 2012 في إسيكس الجانب القاسي من المهنة، حيث وجد نفسه منفذ الاتصال الوحيد لـ400 سرير ليلاً، وهو الطبيب الأقل خبرة بين الجميع، يصف التجربة بأنها غير إنسانية، حيث كان يُتوقع منه أن يكون حاضرًا لما يقرب من 40 حالة عاجلة، بينما يفتقر إلى الخبرة والدعم، قد تحسن الوضع في بعض المستشفيات لاحقًا، حيث أصبح هناك طبيبان طوال الليل بدلًا من واحد، لكن الخلل ظل قائمًا.
مع مرور السنوات، تغيرت السياسات أيضًا، فبعد نوبات العمل الطويلة التي أرهقت الأطباء المبتدئين في السابق، جاء عقد 2016 بنوبات أقصر وفترات راحة أطول، لكن من دون توظيف موظفين إضافيين لسد الفجوة، تحولت الإصلاحات إلى أزمة نقص حاد في الكوادر.
كسرت جائحة كوفيد-19 وحدها هذه الحلقة، إذ جرى سحب جميع الأطباء من العيادات الاختيارية وتوجيههم إلى الرعاية العاجلة، فجأة، وللمرة الأولى، شعر هاتشينسون أن هناك عددًا كافيًا من الأطباء، لكنه يدرك أن الثمن كان فادحًا: مرضى التهاب المفاصل وغيرهم تُركوا بلا متابعة، ليعودوا بعد أشهر بحالات أكثر خطورة.
الحاجة المهنية والموارد المحدودة
انعكس هذا التوتر بين الحاجة المهنية والموارد المحدودة أيضًا في علاقته مع التخصصات الأخرى، خصوصًا أطباء القلب، يصفهم بأنهم صريحون، وعدوانيون، ومغرورون أحيانًا.
يتذكر سنواته الأولى في إسيكس ثم عودته إلى لندن، حيث اصطدم مرارًا بهؤلاء الزملاء، ومع أن السلوكيات خفّت حدتها مع الوقت، إلا أن الانقسامات بين التخصصات بقيت ملموسة، بل وحتى داخل تخصصه يعترف بأن أطباء الروماتيزم قد يكونون بدورهم غريبي الأطوار.
كانت الحياة الشخصية لهاتشينسون متشابكة مع مهنته، في تلك الفترة، التقى زوجته في حفل لشقيقه، ليبنيا معًا حياة أسرية في لندن، حيث يعيشان مع طفليهما، يحترم بشدة عمل الأطباء العامين، وهو عمل يرى أنه مليء بالتحديات غير المرئية: كيف تُميز في عشر دقائق بين نزلة برد وسرطان رئة في مراحله الأولى؟ وكيف تتحمل مسؤولية أخطاء محتملة قد تغير حياة إنسان؟
أما طب الروماتيزم فله صعوباته الخاصة، يصف هاتشينسون الألم كما لو كان شاعرًا، يلتقط طبيعته الدقيقة: صداع يشبه ضربة مطرقة، أو ألم صدري كالسحق، أو طعن حاد يوحي بجلطة رئوية.
بالنسبة له، طبيعة الألم ليست مجرد تفاصيل لغوية، بل هي مفتاح تشخيصي، ومع ذلك، فإن هذا الانغماس في التفاصيل يجعله يواجه باستمرار ما لا يستطيع حله، لا يستطيع إصلاح المصاعد المعطلة في مساكن المرضى، أو تغيير ظروفهم الاجتماعية، هنا يكمن إحباطه الأكبر: أن تأثير الطب يبقى محدودًا أمام اتساع معاناة العالم.
اليوم، يقسّم هاتشينسون وقته بين عيادته ثلاثة أيام في الأسبوع، وبين أبحاثه في معهد كريك في كينغز كروس يومين آخرين، لكنه لم يتخل عن روح الكوميديا التي منحته رؤية مختلفة.
يقول إن انخراطه في هذا العالم جعله يرى إيجابيات مهنته بشكل أوضح، ويقدّر استقرار هيئة الخدمات الصحية مقارنة بما يواجهه آخرون في وظائف مختلفة.
ومع اقترابه من أن يصبح استشاريًا، يدرك أنه سيواجه من جديد السؤال نفسه: "هل أنت حقًا الاستشاري؟"، لكنه مصرّ على البقاء كما هو، لا يغيّر ملابسه ولا شخصيته كما يفعل بعض الأطباء حين يترقون، بالنسبة له، المعركة ليست فقط في قاعات المستشفيات، بل أيضًا في استعادة الكرامة، لنفسه وللمرضى الذين يخدمهم.