فلسطين ومعاداة السامية.. كيف تحولت آراء شخصية لأزمة مهنية في هيئة الصحة البريطانية؟

فلسطين ومعاداة السامية.. كيف تحولت آراء شخصية لأزمة مهنية في هيئة الصحة البريطانية؟
هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة

تشهد بريطانيا منذ أشهر جدلًا واسعًا يتقاطع فيه البعد الحقوقي والسياسي والمهني، بعد أن أعلنت هيئة الصحة الوطنية البريطانية (NHS) إيقاف طبيبة استشارية بارزة عن العمل، عقب الكشف عن منشورات نُسبت إليها على وسائل التواصل الاجتماعي وُصفت بأنها معادية للسامية، وفتحت القضية بابًا حساسًا حول حدود حرية التعبير في مجتمع يشهد استقطابًا حادًا بسبب الحرب في غزة، وتنامي الخطاب حول معاداة السامية والإسلاموفوبيا على حد سواء.

ووفقًا لصحيفة "التليغراف" تواجه الطبيبة إلين كريسلز، استشارية طب الأطفال والقائدة السريرية لفريق طب الأطفال المجتمعي في مؤسسة "Whittington Health NHS Trust"شمال لندن، تحقيقًا داخليًا بعد أن نُسب إليها حساب على الإنترنت يصف حركة حماس بأنها "مقاتلو مقاومة مضطهدون، وليسوا إرهابيين"، ويعتبر أن "معظم اليهود لديهم شعور بالتفوق نتيجة تنشئتهم الصهيونية".

إضافة إلى ذلك، ظهرت كريسلز في مظاهرة مؤيدة لفلسطين في 6 سبتمبر، حاملة لافتة عليها نجمة داوود مكتوب بداخلها كلمات مثل "اغتصاب"، "سرقة"، "كذب"، و"قتل"، ما أثار موجة انتقادات حادة.

ردود فعل رسمية ومؤسسية

المؤسسة الصحية المعنية في بريطانيا أكدت أن الطبيبة "غير مدرجة حاليًا على جدول العمل" إلى حين انتهاء التحقيق، مشددة على أن "سلامة المجتمع على رأس الأولويات"، وأن "الآراء الشخصية لا تمثل المؤسسة".

أما الحملة ضد معاداة السامية (CAA) فقد ذهبت أبعد من ذلك، معتبرة تصريحات كريسلز محاولة لـ"تبرئة حماس" وترويجًا لـ"صور نمطية خطرة عن اليهود"، محذّرة من أن استمرار مثل هذه المواقف يضر بسمعة المهنة الطبية ويخلق بيئة غير آمنة للمرضى والموظفين.

وزير الصحة البريطاني ويس ستريتينغ كان قد أعلن في وقت سابق سياسة "صفر تسامح" تجاه أي شكل من أشكال معاداة السامية داخل هيئة الصحة، وفرضت وزارته في مايو الماضي حظرًا على ارتداء الزي الرسمي أو حمل شارات مؤيدة لفلسطين في أماكن العمل أو المسيرات، هذه السياسة تعكس ضغوطًا سياسية ومجتمعية متزايدة في مواجهة موجة البلاغات عن حوادث معاداة السامية التي ارتفعت بشكل ملحوظ منذ هجمات 7 أكتوبر 2023.

معاداة السامية في بريطانيا

إحصاءات حديثة أجرتها مؤسسة "YouGov" بشأن معاداة السامية في بريطانيا تكشف حجم الأزمة حيث بينت أن 45% من البريطانيين يعتقدون أن إسرائيل تعامل الفلسطينيين كما عامل النازيون اليهود، و21% من المستطلعين اعترفوا باعتناق أربع عبارات أو أكثر تُعد معادية للسامية، مقارنة بـ11% فقط عام 2021.

هذه الأرقام تكشف ارتفاعًا غير مسبوق في تبني الروايات المتطرفة والمواقف السلبية تجاه اليهود داخل المجتمع البريطاني، ما يعكس عمق الاستقطاب الناتج عن الحرب في غزة والجدل المحيط بها.

حرية التعبير مقابل الكراهية

منظمات حقوقية محلية ودولية دعت إلى التمييز الواضح بين انتقاد سياسات دولة إسرائيل، وهو حق مكفول في إطار حرية التعبير، وبين نشر صور نمطية أو عبارات تحمل طابعًا معاديًا لليهود كأفراد أو جماعة دينية، وهو ما يندرج ضمن خطاب الكراهية المرفوض بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.

المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة كانت قد شددت في عدة مناسبات على أن مكافحة معاداة السامية ينبغي ألا تُستخدم ذريعة لقمع حرية التعبير المشروع عن انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، في الوقت ذاته، أكدت أن أي خطاب يتضمن تجريد جماعة دينية من إنسانيتها أو نسب جرائم جماعية إليها يعدّ خرقًا للقانون الدولي.

القضية لا تقتصر على الجدل القانوني والسياسي، بل تمتد إلى الأثر الإنساني المباشر، حيث يثير وقف طبيبة عن العمل بسبب آرائها مخاوف بشأن مدى تداخل المواقف السياسية مع الثقة بين الطبيب والمريض، فبينما يشدد أنصار سياسة "صفر تسامح" على أن المرضى بحاجة إلى بيئة آمنة خالية من التمييز، يحذر آخرون من أن تسليط الضوء على الانتماءات أو المواقف السياسية للأطباء قد يؤدي إلى تسييس المهنة الطبية وإضعاف استقلاليتها.

تاريخ من التوترات

ليست هذه الحادثة الأولى التي تتداخل فيها قضية فلسطين/إسرائيل مع النقاش حول معاداة السامية في بريطانيا، وخلال السنوات الأخيرة، عانت الأحزاب السياسية، وعلى رأسها حزب العمال، من أزمات داخلية بسبب اتهامات بمعاداة السامية ضد أعضاء بارزين، ما أدى إلى تحقيقات مطوّلة وانقسامات سياسية عميقة.

التاريخ الطويل للجالية اليهودية في بريطانيا، إلى جانب تنامي الجالية المسلمة، جعل من النقاش حول الصراع في الشرق الأوسط أكثر تعقيدًا، حيث تُقرأ المواقف السياسية غالبًا في إطار الانتماءات الدينية والعرقية.

ما بين السياسة والمجتمع

الحادثة تكشف بوضوح كيف أن التوترات الدولية تنعكس مباشرة على المجتمعات المحلية، وقد أعادت الحرب في غزة إشعال نقاشات حادة داخل المجتمع البريطاني حول الهوية، الولاء، وحدود التعبير، وبينما يدافع البعض عن حرية التعبير حتى لو تضمن ذلك انتقادات قاسية لإسرائيل أو لليهود، يرى آخرون أن هذه الحرية يجب أن تتوقف عند حدود خطاب الكراهية الذي يعيد إنتاج الصور النمطية التاريخية التي أدت إلى اضطهاد اليهود في أوروبا.

إيقاف الطبيبة البريطانية إلين كريسلز عن العمل ليس مجرد قضية مهنية، بل مرآة لصراع أوسع في بريطانيا بين قيم حرية التعبير وحماية المجتمع من خطاب الكراهية، وفي ظل تزايد معدلات معاداة السامية، وضغوط الحرب في غزة، يبدو أن هذا الجدل سيستمر طويلاً، ليبقى السؤال مفتوحًا: كيف يمكن لمجتمع ديمقراطي أن يوازن بين حرية التعبير ومكافحة التمييز دون أن يتحول أي من الطرفين إلى أداة سياسية تقوض الآخر؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية