الضرائب المناخية.. خطوة نحو تصحيح ميزان الحقوق بين الشمال والجنوب
حق إنساني ومسؤولية مشتركة
تدفع الأزمة المناخية العالم اليوم إلى مفترق طرق حاسم، حيث تتقاطع الاعتبارات البيئية بالحقوقية في صلب نقاشات تمويل المناخ، ومع اقتراب انعقاد مؤتمر الأطراف الثلاثين (كوب30) في مدينة بيليم البرازيلية، تتجه الأنظار إلى خريطة الطريق “من باكو إلى بيليم” التي وضعتها حكومتا أذربيجان والبرازيل، بوصفها خارطة جديدة للعدالة المناخية العالمية.
تدعو الخريطة، بحسب تقارير أوردتها اليوم "فايننشيال تايمز" و"الغارديان"، إلى فرض ضرائب على الأنشطة الملوِّثة والأثرياء والشركات النفطية الكبرى وسيلة رئيسية لتعبئة الموارد لمساعدة الدول الفقيرة في مواجهة آثار الانهيار المناخي.
فرض ضرائب على الملوِّثين
يدعو التقرير الأممي الذي سيُناقش خلال مؤتمر الأطراف الثلاثين إلى استهداف الاتفاقيات العالمية للأنشطة كثيفة الكربون والأفراد ذوي الثروات الطائلة، في خطوة تهدف إلى تحويل التمويل المناخي من التزامات طوعية إلى مسؤولية دولية قائمة على مبدأ "المُلوِّث يدفع".
توصي خارطة الطريق بأن تدرس الحكومات فرض ضرائب جديدة على فاحشي الثراء والوقود الأحفوري والمعاملات المالية والأنشطة كثيفة الانبعاثات، باعتبارها أدوات رئيسية لجمع التمويل اللازم لمساندة الدول النامية التي تواجه كوارث المناخ دون موارد كافية.
يُعد هذا المقترح، وفق ما أوضحت "فايننشيال تايمز"، أحد أهم مخرجات خطة تمويل المناخ العالمية التي أعدّتها أذربيجان والبرازيل، واللتان تقودان بالتتابع عملية مؤتمر الأطراف التابع لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ.
وفي مداخلة وصفتها الصحيفة بـ"القوية بشكل مفاجئ"، دعت الحكومتان إلى تعزيز التعاون الدولي في مجال الضرائب، وإطلاق تجارب شراكات طوعية بين الدول في الأنشطة الملوِّثة، مثل الصناعات الكثيفة لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري والمعاملات المالية، وكذلك الأفراد أصحاب الثروات الضخمة.
أصوات من المجتمع المدني
رحّب النشطاء بهذا التوجه واعتبروه خطوة حاسمة نحو تحقيق العدالة المناخية بوصفها حقاً إنسانياً، وأكدت الخبيرة السياسية العالمية في منظمة السلام الأخضر الدولية، ريبيكا نيوسوم، أن خريطة الطريق تمثل تحولًا جوهريًا، لأنها "تُقرّ بفرض ضرائب ورسوم جديدة لتكون مفتاحاً لتوفير التمويل العام للمناخ".
وأشارت نيوسوم إلى أن الأرباح المُعلنة لخمس شركات نفط وغاز دولية فقط خلال العقد الماضي بلغت نحو 800 مليار دولار، معتبرة أن فرض ضرائب على هذه الشركات "يمثل فرصة هائلة لتجاوز القيود المالية الوطنية"، ولبناء نظام تمويلي أكثر عدالة بين الشمال الصناعي والجنوب المتأثر.
من جانبها، حذّرت المديرة التنفيذية لمنظمة "غرينبيس البرازيل"، كارولينا باسكوالي، من أن فجوة التمويل المناخي ما زالت "تُكرس أوجه عدم المساواة"، مؤكدة أن خريطة الطريق "لم تُقدّم بعد حجم التمويل العام المطلوب للتخفيف والتكيف مع الخسائر والأضرار".
وأضافت أن العدالة المناخية تتطلب "مساءلة الدول المتقدمة عن التزاماتها"، مشددة على أن التمويل المناخي حقٌّ وليس منّة، وأن على الدول الغنية الوفاء بمسؤولياتها التاريخية تجاه الكوكب.
1.3 تريليون دولار هدف 2035
يُتوقع أن تُشكّل خريطة الطريق من باكو إلى بيليم الأساس لنقاشات تمويل المناخ في قمة (كوب30)، حيث حدّد مؤتمر الأطراف الذي عُقد العام الماضي في باكو هدفًا يتمثل في توفير 1.3 تريليون دولار سنويًا للدول الفقيرة بحلول عام 2035، لمساعدتها على خفض الانبعاثات ومواجهة آثار الطقس المتطرف.
لكن "فايننشيال تايمز" كشفت أن الدول الغنية تعهدت بدفع 300 مليار دولار فقط من هذا المبلغ، على أن يأتي الباقي من الضرائب الجديدة والقطاع الخاص ومصادر تمويل مبتكرة، ورغم الترحيب بهذه الوعود، فإنها تثير تساؤلات حول عدالة توزيع الأعباء وغياب آليات إلزام واضحة.
صرّح الوزير الأذربيجاني ورئيس مؤتمر الأطراف التاسع والعشرون، مختار باباييف، بأن خريطة الطريق "تُظهر مسارًا واقعيًا لزيادة تمويل المناخ للعالم النامي إلى 1.3 تريليون دولار"، لكنه حذر من أن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية وعملًا عالميًا جادًا.
وقال باباييف: "مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة، يصبح توسيع نطاق التمويل العامل الحاسم للنجاح، فلا يمكن للدول أن تخفض انبعاثاتها إذا لم تمتلك رأس المال اللازم لتحقيق طموحاتها".
ديون الدول الفقيرة
يُبرز التقرير أيضًا أن البلدان النامية المُثقلة بالديون تحتاج إلى حلول تمويلية مبتكرة، مثل مبادلة الديون باستثمارات مناخية، تسمح بتحويل جزء من الديون إلى مشاريع تُخفّض الانبعاثات أو تُعزّز التكيف مع آثار تغيّر المناخ.
وتُقرّ خريطة الطريق بضرورة تسهيل وصول الدول النامية إلى رأس المال الخاص بتكاليف أقل، نظرًا لأنها تدفع أسعار فائدة أعلى بكثير من نظيراتها الغنية، وترى الصحيفة أن تدخل البنك الدولي والمؤسسات التنموية العامة يمكن أن يخفض تلك التكاليف بشكل كبير، ما يُسهّل على الدول الفقيرة تمويل مشاريعها المناخية وتحقيق التزاماتها.
كما تدعو الوثيقة إلى جعل العدالة الاجتماعية في التحول الطاقي أولوية مركزية، محذرة من أن تجاهل الأبعاد الاجتماعية قد يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة وتقويض الثقة العامة وإبطاء التقدم في العمل المناخي.
وتوصي بضرورة إشراك العمال والنساء والشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية في عمليات التحول، مع تخصيص نوافذ تمويلية مخصصة تضمن شمول الجميع.
آلية مساءلة عالمية
وفي سياق متصل، كشفت "الغارديان" عن تقرير جديد بعنوان "ضريبة أضرار المناخ" يقترح فرض ضريبة إضافية على شركات الوقود الأحفوري الكبرى في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، يمكن أن تجمع 720 مليار دولار بحلول عام 2030.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الضريبة، إذا فُرضت بمعدل ابتدائي قدره 5 دولارات للطن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون مع زيادة سنوية مماثلة، ستوفر 900 مليار دولار خلال ست سنوات، منها 720 مليارًا لصندوق الخسائر والأضرار و180 مليارًا لدعم المجتمعات في الدول الغنية خلال انتقالها الطاقوي.
وصرّح مدير حملة القضاء على الفقر والمؤلف المشارك للتقرير، ديفيد هيلمان، بأن "أغنى الدول وأكثرها مسؤولية تاريخيًا عن تغير المناخ لا تحتاج سوى إلى النظر إلى صناعات الوقود الأحفوري لجمع عشرات المليارات سنويًا"، وأكد أن "هذه هي الطريقة الأكثر عدالة لتمويل صندوق الخسائر والأضرار وضمان تلبية أهدافه".
وحظي التقرير بدعم عشرات المنظمات البيئية، منها غرينبيس وباور شيفت أفريكا وكريستيان إيد التي اعتبرت أن الضريبة المقترحة أداة فعالة لتحقيق مساءلة الملوِّثين وتسريع التحول العادل بعيدًا عن الوقود الأحفوري.
الحق في بيئة آمنة
شدّدت المديرة المشتركة في "غرينبيس المملكة المتحدة"، أريبا حامد، على أن "الحكومات لم تعد قادرة على التغاضي وترك الناس العاديين يتحملون كلفة الأزمة المناخية في حين يواصل أصحاب النفط جني الأرباح".
وأضافت أن "ضريبة الأضرار المناخية يمكن أن تحقق هدفين معًا: تمويل العدالة المناخية في الجنوب وتسريع الانتقال العادل في الشمال".
وأشارت إلى أن العالم يشهد اليوم جفافًا مدمّرًا في إفريقيا وفيضانات مميتة في باكستان وأفغانستان، مؤكدة أن "الظواهر الجوية المتطرفة تحصد الأرواح وتُدمّر المجتمعات الأقل إسهاماً في الأزمة، في حين يواصل الملوِّثون الإفلات من المحاسبة".
تنعقد قمة المناخ المقبلة في بيليم وسط هذه النداءات المتصاعدة، لتؤكد أن التمويل المناخي لم يعد قضية اقتصادية فحسب، بل هو التزام أخلاقي وحقوقي يطل جوهر العدالة الدولية.
فالعدالة المناخية، كما توضح خريطة الطريق من باكو إلى بيليم، ليست ترفًا بيئيًا، بل حق إنساني أصيل، يرتبط مباشرة بالحق في الحياة والكرامة والتنمية المستدامة، ويضع مسؤولية تمويل الحلول على من أشعلوا أزمة الكوكب وليس على من يدفعون ثمنها.










