تحت نيران الصراع والمناخ.. تفاقم أزمة النزوح القسري في جنوب السودان
تحت نيران الصراع والمناخ.. تفاقم أزمة النزوح القسري في جنوب السودان
حصلت جنوب السودان على استقلالها عام 2011 لتصبح أحدث دولة في إفريقيا، غير أن الصراع الداخلي اندلع في عام 2013، بعد خلع نائب الرئيس السابق وإخراجه من منصبه، ما أدى إلى حرب أهلية أودت بحياة نحو 400 ألف شخص في غضون خمس سنوات.
في عام 2018، توصلت الأطراف المتحاربة إلى اتفاق سلام شمل تقاسم السلطة، لكن الهشاشة السياسية والعرقية ظلت حاضرة، وتفاقمت في الآونة الأخيرة إثر دعوات المعارضة لتغيير النظام واتّهامات بالخيانة ضد زعمائها.
هذا الخلفيّة التاريخية تشكّل بيئة خصبة للاشتباكات المتجددة، وللنزوح القسري الذي أخذ منحى تصاعديًا خلال عام 2025، حيث أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن أكثر من 445 ألف شخص من سكان دولة جنوب السودان أجبروا على مغادرة منازلهم بسبب تصاعد العنف في مارس الماضي، وفق فضائية العربية، وهو ما أدى إلى تفاقم واحدة من أطول الأزمات الإنسانية في العالم.
نزوح قسري وفصول متجددة
تتعدد الأسباب التي تدفع العائلات إلى الفرار من منازلها في جنوب السودان، ويمكن حصر أبرزها في ثلاثة محاور أساسية:
أولاً، العنف العسكري والسياسي المتجدد: منذ فبراير 2025، اشتد القتال بين قوات الدولة ومجموعات مسلّحة في ولاية النيل الأعلى، ومناطق جوكلي ووحدة، ما دفع آلاف المدنيين للنزوح داخلياً أو العبور إلى بلدان الجوار، وثانيًا، النزاع القبلي والانفلات الأمني: في ولايات مثل وارب ووحدة، تصاعدت حدة العنف بين المجتمعات الرعوية والمستوطنات، في سياق الصراعات على الكسب وإعادة البقر والأراضي، وثالثًا، عوامل غير عسكرية: تشمل الفيضانات الموسمية التي أجبرت مئات الآلاف على الفرار، وانهيار الخدمات الأساسية وارتفاع أسعار الغذاء والوقود، ما أفقد الناس سبل العيش.
كما سجلت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أنّ نحو 100 ألف فرّوا إلى الخارج فقط منذ فبراير، بينما نزح 65 ألف شخص داخل ولاية النيل الأعلى وحدها.
تداعيات إنسانية متعددة
أزمة النزوح في جنوب السودان ليست مجرد أرقام بإحصاءات؛ إنها حياة يومية مهددة أُسسها. بحسب تقارير اليونيسيف، بين يناير ويوليو 2025 نزح نحو 355 000 شخص إضافيًا من مناطق النزاع، بينما يواجه نحو 9.3 ملايين شخص احتياجاً إنسانياً عاجلاً.
النساء والأطفال وكبار السن وذوو الإعاقة هم الأكثر تأثراً، حيث تتعرّض النساء لمخاطر العنف الجنسي، وتُقطع سبل التعليم عن الأطفال وتتعطّل الرعاية الصحية، وتنتشر أمراض مثل الكوليرا والملاريا في ظل نقص الخدمات.
كما أن النازحين غالباً ما يعيشون في ملاجئ مؤقتة أو تحت الأشجار أو القشّ، دون قوانين حماية واضحة، مما يزيد من تفاقم معاناتهم، وقد أفاد تقرير حماية أنّ كبار السن وذوي الإعاقة يواجهون صعوبات مضاعفة في الوصول إلى المساعدات.
إضافة إلى ذلك، تسبب النزاع في تداعيات اقتصادية –تدمير مواسم الزراعة، قطع سلاسل التوريد، وارتفاع الأسعار– ما جعل الأمن الغذائي على حافة الانهيار، مع ملايين مهددين بسوء التغذية الحاد.
ردود المنظمات الحقوقية
تراقب العديد من المنظمات المحلية والدولية الوضع في جنوب السودان، وتعبّر عن قلق متزايد. في أكتوبر 2025، أشارت لجنة حقوق الإنسان في جنوب السودان إلى أن أكثر من 300.00 شخص أجبروا على الفرار من البلاد العام ذاته بسبب الاشتباكات والأزمة السياسية.
ويشير تقرير صادر عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى أن البلاد حتى نهاية 2024 استضافت نحو 1.4 مليون شخص نازح داخلياً، وأكثر من 2.3 مليون في الخارج.
أما من منظور الحقوق والحماية، فقد أكّدت التحليلات أن انتهاكات حقوق الإنسان –من العنف المنهجي إلى قطع الخدمات الأساسية– تشكّل أحد المحفزات للنزوح، وهو ما يستوجب تدخلات عاجلة.
جهود الإغاثة تواجه بدورها أزمة تمويل حادة؛ فمثلاً منظمة اليونيسيف وجدت أن أكثر من 19 في المئة فقط من نداءها الطارئ لعام 2025 للبلاد تلقى تمويلاً حتى يوليو.
من جهة القانون الدولي، يٌعد النزوح القسري الناتج عن العنف المتعمد انتهاكاً لالتزامات الدولة بحماية المدنيين، كما أن رفض منح الحماية للنازحين عبر الحدود يدخل ضمن نطاق مبادئ اللجوء وحقوق الإنسان العالمية، وتُذكّر المنظمات الحقوقية بضرورة احترام مبادئ الحماية، ومنها عدم الترحيل القسري أو الإجبار على العودة قبل توفر ظروف آمنة.
منذ استقلال جنوب السودان، ظلت البلاد تعاني من هشاشة الدولة، اقتصاد يُعتمد إلى حد كبير على النفط، وبنى تحتية ضعيفة، وبعد نشوب الحرب الأهلية، توقفت المؤسسات عن العمل، وتعمّقت الانقسامات العرقية والقبلية.
اتفاق السلام في 2018 (R-ARCSS) منح الأمل، لكنه بدأ يتآكل بسبب العدم الكامل لتنفيذ بنوده، واستمرار المنازعات على النفوذ والموارد. وعليه، فإن النزوح القسري ليس حدثاً عرضياً بل نتاج تراكمات سياسية واجتماعية واقتصادية.
كما أن التغيرات المناخية –أمطار غزيرة، فيضانات– تزيد من هشاشة المجتمعات وتجعَلها معرضة أكثر للفرار.
خلاصات وتحولات محتملة
من الأهمية بمكان أن يُدرك الأطراف المعنيون أنّ معالجة النزوح في جنوب السودان تتطلب أكثر من توزيع مساعدات طارئة؛ بل تنطوي على معالجة جذرية لأسباب النزوح: إنهاء النزاع، تعزيز المصالحة، بناء قدرات الدولة، وضمان الاندماج الاقتصادي والاجتماعي للنازحين واللاجئين.
المنظمات الدولية تطالب بتمويل طارئ مستدام، وفتح ممرات إنسانية آمنة، وإعادة تأهيل البنى التحتية، مع إشراك المتأثرين أنفسهم في التخطيط والتنفيذ، بالموازاة، يجب تعزيز الحماية القانونية، وتقديم المساءلة عن الانتهاكات التي تدفع الناس إلى الفرار.
في هذا السياق، يمكن للبلدان المضيفة والدول المجاورة أن تلعب دوراً أكبر في التنسيق، لكن الأهم أن تصل الأموال والمساعدات إلى المجتمعات المتضررة مباشرة، وليس فقط عبر قنوات بيروقراطية.
وأخيراً، فإن حلّ الأزمة ليس بعيد المنال إذا توفرت الإرادة السياسية والتمويل المستدام، وإذا ما تم وضع الحقيقة أمام كيفية أن النزوح القسري في جنوب السودان ليس مجرد ظرف مؤقت، بل مظهراً لضعف الدولة، وتجاهل الحقوق، وعجز المجتمع الدولي عن التدخل في الوقت المناسب.










