موارد لا تنعكس على حياة الناس.. خبراء يحذرون من تفاقم الفقر الهيكلي في العراق
موارد لا تنعكس على حياة الناس.. خبراء يحذرون من تفاقم الفقر الهيكلي في العراق
يواصل الفقر في العراق تمدده وتحوّله إلى ظاهرة بنيوية تؤثر في ملامح المجتمع ومستقبل أجياله، ورغم تحسن طفيف ظهر خلال السنوات الأخيرة في مؤشرات الدخل، فإن الواقع المعيشي العام للمواطنين لا يزال أسير التراجع الحاد في الخدمات الأساسية وغياب السياسات القادرة على خلق نمو حقيقي ينعكس على حياة الناس، وفي هذا السياق يكشف الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي أرقاماً صادمة تؤكد عمق الأزمة واتساعها، إذ يشير إلى أن أكثر من 36% من العراقيين يعانون من فقر متعدد الأبعاد، أي ما يقارب سبعة عشر مليون شخص.
ولا يقتصر هذا الفقر على الدخل فقط، بل يمتد ليشمل التعليم والصحة والعمل ومستوى المعيشة والصدمات الاقتصادية والاجتماعية التي يتعرض لها الأفراد يومياً وفق "شبكة أخبار العراق".
فقر يتجاوز حدود الدخل
ورغم أن نسبة فقر الدخل المباشر تبلغ سبعة عشر ونصفاً في المئة، فإن خطورة الفقر متعدد الأبعاد تكمن في تأثيره الشامل في مسارات الحياة اليومية للعائلة العراقية، فبيانات وزارة التخطيط والبنك الدولي تشير إلى أن نصف أطفال العراق يعانون من حرمان متعدد الأبعاد، ما يعكس تحديات لا تهدد الحاضر فقط، بل تمتد لتؤثر في قدرة الجيل الشاب على بناء مستقبل مستقر، كما تسجل مشاركة النساء في سوق العمل رقماً متدنياً لا يتجاوز أحد عشر في المئة، وهو مؤشر يعكس الاختلالات العميقة في الهيكل الاقتصادي والاجتماعي وفي فرص تمكين المرأة.
تحذيرات التقارير الأممية تتوالى لتؤكد أن الفقر في العراق أصبح ذا طابع هيكلي مرتبط بتراجع واسع في الخدمات العامة، وتكشف هذه التقارير وجود فجوة كبيرة بين المحافظات، حيث ترتفع نسب الفقر بشكل مضاعف في مدن الجنوب مقارنة ببغداد وإقليم كردستان، وتنعكس هذه الفجوة في مستوى التعليم، وضعف البنى الصحية، وتراجع فرص العمل، ما يجعل بعض المناطق أكثر هشاشة أمام الصدمات الاقتصادية المستمرة.
التحديات لا تتوقف عند الحدود الداخلية، إذ يشير تقرير حديث لمجلة عالمية إلى أن العراق احتل المرتبة 116 عالمياً في مستوى نصيب الفرد من الدخل بقيمة 5873 دولاراً سنوياً، ورغم أن هذا الرقم قد يبدو مرتفعاً عند مقارنته ببلدان أخرى في المنطقة، فإن الواقع المعيشي لا يعكس أي تحسن فعلي، خاصة مع الارتفاع المستمر بكلفة الحياة وتراجع قدرة الخدمات الحكومية على سد احتياجات المواطنين.
موارد نفطية لا تكفي لسد العجز
وفي سياق مواز، يقدم الخبير الاقتصادي منار العبيدي صورة دقيقة عن الوضع المالي في العراق حتى نهاية أغسطس من عام 2025، مبيناً أن إجمالي الإيرادات بلغ 82 تريليون دينار، منها 73 تريليون دينار من القطاع النفطي فقط، أما الإيرادات غير النفطية فقد توقفت عند 9 تريليونات دينار، وهو رقم يعكس حالة اعتماد كبير على مورد واحد، ما يجعل الاقتصاد عرضة للتقلبات السوقية العالمية.
يقابل هذه الإيرادات إنفاق كبير وصل إلى 87 تريليون ونصف تريليون دينار، يضاف إليها خمسة تريليونات دينار تمثل سلفاً حكومية ستدخل ضمن المصروفات الفعلية في نهاية العام، وتشير هذه الأرقام إلى عجز فعلي يقترب من 15 تريليون دينار يجري تمويله من الاحتياطات النقدية، ويؤكد العبيدي أن البنك المركزي اشترى من وزارة المالية 49 مليار دولار فقط خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، في حين باع عبر نافذة العملة أكثر من 60 مليار دولار، أي إن 11 مليار دولار جرى سحبها من الاحتياطي الأجنبي لتلبية الطلب الداخلي على العملة الأجنبية.
في ظل أسعار نفط مستقرة تتراوح بين ستين وخمسة وستين دولاراً للبرميل، يحذر العبيدي من أن الحكومة لن تتمكن من تغطية جزء كبير من النفقات التشغيلية، ما لم تبادر إلى إجراءات سريعة لتعزيز الإيرادات غير النفطية وترشيد الإنفاق العام، ويستمر هذا المشهد في فرض ضغوط كبيرة على الموازنة، خاصة مع توسع التعيينات الحكومية وزيادة الالتزامات التشغيلية المرتبطة برواتب الموظفين والدعم الاجتماعي.
مرحلة الفرص الضائعة
على مدى أربع سنوات من عمر الحكومة، يقدم الخبير زياد الهاشمي تقييماً نقدياً لأداء الدولة المالي والإداري بين 2022 و2025، واصفاً المرحلة بأنها زمن الفرص الضائعة، ويؤكد أن الوفرة النفطية التي شهدتها العراق كان يمكن أن تشكل نقطة تحول لبناء اقتصاد متنوع، إلا أن الحكومة أعادت تدوير الأزمات بدلاً من تفكيكها والتعامل معها بطرق مبتكرة.
يرى الهاشمي أن العراق بقي أسيراً لسعر برميل النفط، مع اعتماد يتجاوز 92 في المئة على عائدات النفط وفقاً لبيانات البنك الدولي. وفي المقابل تراجعت إسهامات الزراعة والصناعة إلى أقل من سبعة في المئة، وهو مؤشر خطير يظهر أن الحكومة لم تتخذ خطوات جادة لإطلاق قطاعات اقتصادية بديلة قادرة على خلق وظائف وتحقيق استدامة مالية.
هدر واسع وتوسع وظيفي
يشير الهاشمي أيضاً إلى وجود زيادة غير مسبوقة في الهدر المالي وعدم الانضباط في إدارة الموارد، ترافقها موجة كبيرة من التعيينات الحكومية التي رفعت عدد الموظفين إلى أربعة ملايين وسبعمئة ألف موظف، وهو رقم يضع عبئاً هائلاً على الموازنة العامة، كما ارتفع الدين الداخلي ليصل إلى 97 تريليون دينار، في حين بلغ الدين الخارجي واحداً وأربعين مليار دولار، ما يضع العراق في دائرة مقلقة من الاعتماد على الاقتراض لتغطية الالتزامات الأساسية.
الفقر يتمدد رغم تحسن المؤشرات النقدية
ورغم التحسن المحدود في بعض المؤشرات الاقتصادية، فإن الفقر متعدد الأبعاد يستمر في الاتساع، فالمواطن العراقي ما زال يلمس تراجعاً في مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، وضعفاً في البنية التحتية، وغياباً لفرص العمل المستدامة، مقابل ارتفاع كبير في النفقات التشغيلية التي لا تصب في تحسين حياة الناس، وبذلك تبقى الفجوة بين المؤشرات الرسمية والواقع المعيشي قائمة، ويظل ملايين المواطنين عالقين في دائرة الفقر والمخاوف المستقبلية.
يعيش العراق منذ سنوات طويلة أزمة اقتصادية معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية، فقد أدى الاعتماد المفرط على النفط منذ سبعينيات القرن الماضي إلى إضعاف القطاعات الإنتاجية الأخرى، ما جعل الاقتصاد شديد الحساسية لأي تراجع في أسعار النفط. كما أسهمت الأزمات السياسية والفساد الإداري وغياب التخطيط طويل الأمد في تعميق الفجوات الاجتماعية وتعطيل مشاريع التنمية، وتظهر التقارير الدولية أن العراق واحد من أكثر الاقتصادات عرضة للتذبذب، في حين تشير الدراسات المحلية إلى أن غياب سياسات تنويع اقتصادي، وتراجع الإنتاج الزراعي والصناعي، والانفلات المالي، كلها عوامل جعلت النمو غير قادر على تحقيق انعكاس إيجابي على حياة المواطنين، وتؤكد معظم التحليلات الاقتصادية أن معالجة الفقر في العراق تتطلب إصلاحات هيكلية عميقة تشمل إعادة بناء الخدمات، وتمكين المرأة اقتصادياً، وتحفيز القطاعات الإنتاجية، وتقليص الاعتماد على النفط الذي يشكل أكثر من تسعين في المئة من موارد الدولة.








