انحسار الفقر في العراق إلى 17.5%.. ما تداعيات الانخفاض على الفئات الهشة؟
انحسار الفقر في العراق إلى 17.5%.. ما تداعيات الانخفاض على الفئات الهشة؟
أعلنت وزارة التخطيط في العراق، السبت، مدعومة بتقديرات استندت إلى مسح الأسر الوطني (IHSES 2023/24) وتقارير شركاء التنمية، تراجع نسبة الفقر الوطني إلى نحو 17.5 بالمئة بعد أن كانت أعلى في السنوات الأخيرة، في حين سجّل مؤشر الفقر متعدد الأبعاد انخفاضاً أيضاً إلى نحو 10.8 بالمئة، وتُقدَّم هذه الأرقام في ظرف يتزامن مع إطلاق الحكومة لتخطيط تنموي وخطوات لتعزيز برامج الحماية الاجتماعية، لكنها تفتح جدلا حول التفاوتات الإقليمية ومنهجيات القياس ومدى استدامة الانخفاض.
الانخفاض المعلن إلى 17.5 بالمئة يَستند إلى نتائج المسح الوطني الأخير، ويُصنَّف كونه تحسّناً نسبياً مقارنة بمستويات ما بعد الأزمة التي شهدتها العراق خلال العقد الماضي، في المقابل، يكشف تقرير مؤشر الفقر متعدد الأبعاد عن تراجع في شدة الأبعاد غير النقدية للفقر (التعليم والصحة والسكن والخدمات الأساسية)، ما يعطي صورة أكثر تكاملاً عن الفقر من الاعتماد الحصري على خط الفقر النقدي، هذا التمييز بين فقر الدخل والفقر المتعدد الأبعاد مهم لأن سياسات النقد وحدها قد لا تُعالج حرمانات التعليم والصحة والبنية التحتية وفق بيانات البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
قراءات محلية متباينة
تُظهر البيانات تباينات حادة بين المحافظات العراقية، على سبيل المثال، سجلت محافظة المثنى انخفاضاً ملحوظاً من مستويات فائقة الارتفاع نحو 52 بالمئة إلى ما يقارب 40 بالمئة في تقديرات المسح الجديد، في حين تراجعت نسب كبيرة أيضاً في محافظات أخرى كانت من الأكثر حرماناً.
وفي المقابل، يُظهر إقليم كردستان أرقاماً أقل بكثير مما ورد في الحسبة الاتحادية، وقد أبدت السلطات الإقليمية ملاحظات على طريقة اتخاذ القرارات أو تضمين البيانات، ما يعكس حساسية التقسيم الإقليمي وإشكالية تنسيق المصادر الإحصائية، هذه الفروقات تُلقي بظلال من الشك حول ما إذا كان الانخفاض متوازن التأثير بين المناطق الحضرية والريفية أو بين فئات مثل النازحين والأسر المعتمدة على الزراعة الصغيرة.
وتربط الحكومة العراقية جزءاً من تحسّن المؤشرات بالدفع ببرامج التنمية البشرية التي شاركت فيها مؤسسات وطنية ودولية، إلى جانب مكونات من الخطة الوطنية للتنمية 2024–2028 التي تضع محاور استثمارية واسعة وتقدّر حصيلة إيرادات وخطط استثمارية كبيرة (توقعات إجمالية تقارب 710 تريليونات دينار خلال خمس سنوات).
الخطة تضع أولويات في قطاعات الطاقة والسكن والخدمات الاجتماعية، وتستهدف نمواً متواضعاً يقابله استثمار كبير في البنية التحتية وخيارات التكوين الرأسمالي بحسب تقديرات الوزارة، ومع ذلك، يبقى سؤال الفاعلية مرتبطاً بسرعة التنفيذ وقدرة الجهاز الحكومي على ترجمة المخصصات إلى خدمات ملموسة للفئات الأضعف.
ردود فعل أممية ودولية
رحّبت هيئات أممية منها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونيسيف وشركاء تنمويون بإطلاق مؤشر الفقر متعدد الأبعاد، معتبرين إياه أداة لصياغة سياسات أضبط وأكثر استهدافاً، ومؤكّدين دعمهم مؤسسات التخطيط في توظيف النتائج في البرامج القطاعية.
وفي المقابل، أبرزت تقارير منظمات حقوقية دولية منها هيومن رايتس ووتش أن التحسن في نسب الفقر النقدي، إن تحقق، لا يلغِي الانشغالات المستمرة حول أوضاع الخدمات الأساسية، البطالة وخاصة بطالة الشباب، والوصول إلى المياه والسكن اللائق، والتي تظل شديدة التأثر بالصدمات المناخية والنزوح، كما أشارت منظمات أممية أخرى إلى أن اختلاف تعريفات الفقر والمنهجيات بين مؤسسات متعددة قد يولّد تباينات في النتائج، ما يستلزم التنسيق والشفافية في مراحل الحصر.
يترتب على أي دولة تُعلن نجاحات في خفض الفقر التزامات بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي صادقت عليه العراق في أوائل السبعينيات، والذي يُلزم الدولة بضمان الحق في مستوى معيشة ملائم، والصحة، والتعليم، والحماية الاجتماعية، وهذا الإطار القانوني يُحوّل خفض نسب الفقر إلى مؤشر على مدى تنفيذ الدولة لالتزاماتها ويمنح المجتمع المدني ومنظمات الحقوق وسطاء للمناصرة بالاعتماد على التزامات دولية.
تداعيات اجتماعية واقتصادية
انخفاض معدلات الفقر إن صحّت روايته قد يخفف أعباء الفقر المباشر، لكنه لا يضمن تلاشي الفئات الهشة: الأطفال (نسبة عالية من الأطفال ما زالوا يتعرّضون للفقر متعدد الأبعاد)، النازحون، والأسر الريفية والمرأة العاملة بلا حماية. ضعف سوق العمل وارتفاع نسبة البطالة وسياسات الأجور والهشاشة في قطاعات واسعة تعني أن أي تراجع في الفقر النقدي قد يكون هشاً أمام صدمات جديدة، مثل انخفاض أسعار النفط، الجفاف أو أزمات خارجية، لذلك تشير المؤسسات الدولية إلى أن مزيج السياسات المطلوب يجب أن يجمع بين: تعويضات نقدية مستهدفة، إصلاحات في الحماية الاجتماعية، استثمارات في التعليم والتدريب التقني والمهني، وبرامج تشغيل خاصة بالشباب والنساء، بالإضافة إلى تحسين الإدارة المالية والحوكمة لضمان وصول الموارد إلى المستفيدين.
تجدر الإشارة إلى أن اختلاف المؤشرات (معدلات دخل مقابل مؤشر متعدد الأبعاد)، واختلاف الأطراف المصدرة للبيانات، وعلى مستوى التوقيت ومساحة التغطية يؤدي أحياناً إلى تباينات تفسيرية، كما أن إشراك المجتمع المدني والمحافظات وإقليم كردستان في مراجعات منهجية يعزز مصداقية الأرقام ويقلل فرص الاحتقان السياسي حولها، مطالبة الإقليم بعدم استشارته في بعض مراحل العمل الإحصائي تشير إلى ضرورة حوار فني وسياسي أوسع لضمان اعتماد مشترك للنتائج.
ووفق خبراء اقتصاديين، تقدم البيانات الجديدة نافذة مهمة لصانعي القرار: إما أن تُستثمر في تصميم برامج مصمَّمة على قياس الأبعاد المتعددة للفقر، وإما أن تبقى سجلاً إحصائياً لا يترجَم إلى تحسين يومي لحياة الملايين، والمعيار العملي لنجاح هذا التحسّن سيكون قدرة الدولة على ترجمة الخطة الخمسية والنتائج الإحصائية إلى خدمات فعلية ومستدامة للفئات الأضعف، عبر تعزيز الحماية الاجتماعية، خلق فرص عمل لائقة، وتحسين الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والمياه.