مياه تقل وحقوق تنهار.. كيف تحول الجفاف لأزمة إنسانية وقانونية في العراق؟

مياه تقل وحقوق تنهار.. كيف تحول الجفاف لأزمة إنسانية وقانونية في العراق؟
أزمة الجفاف في العراق

يواجه العراق منذ 2024–2025 موجة جفاف حادة أفضت إلى تراجع حاد في مخزونات المياه في نهري دجلة والفرات، وبلغت الاحتياطيات مستوى غير مسبوق في عقود، ما يفاقم أزمة سابقة تتصل بتقادم البنى التحتية والضغوط العابرة للحدود وممارسات صناعية محلية.

وتشير الأرقام والتحاليل الميدانية إلى أن البلاد أمام احتمال نزوح واسع وفقدان سعات إنتاج غذائية ومخاطر صحية وبيئية تتقاطع مع التزامات الدولة بموجب القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بالحق في الماء والحياة. 

يتداخل في تشكّل أزمة المياه في العراق عاملان أساسيان: عوامل خارجية تتعلق بتقليل تدفقات المياه من دول المنبع، ولا سيما مشاريع السدود في تركيا وإيران، وعوامل داخلية تشمل تدهور أنظمة الري، استغلال مفرط للمياه الجوفية، وتوسّع أنشطة صناعية مستنزفة للمياه مثل بعض مشاريع النفط.

وتشبر وثائق بحثية وتحليلات سياسية واقتصادية إلى أن المخزون المائي تراجع بدرجة تجعل الاحتياطي يقلّ من نحو 18 مليار متر مكعب إلى مستويات قريبة من 10 مليارات، ما يضع البلاد في أدنى مستوى احتياطي منذ عقود،كما تلعب ظاهرة التغير المناخي دورا متصاعدا في انخفاض الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. 

تداعيات إنسانية وبيئية

الانخفاض في مناسيب الأنهار أدى إلى جفاف مستنقعات ومناطق رطبة تاريخية، مع أثر مباشر على الصيادين والمزارعين وسكان الأهوار الذين فقدوا مصادر رزقهم وترابطهم الثقافي مع الأراضي، ورصدت تقارير ميدانية  نزوح أسر ومجتمعات قروية -في محافظات الجنوب مركز الأزمة- وفقدان مواشٍ ومواسم زراعية، كما تبرز تغيرات في تنوع الأسماك والملوحة التي تهدد الأمن الغذائي المحلي. وفي مزارع الجواميس والماشية سجلت خسائر كبيرة في الرؤوس ما يفاقم خطر الفقر الغذائي ويقود إلى هجرة داخلية متزايدة.

الحق في الماء والنظافة والصحة يندرجان اليوم ضمن التزامات حقوقية دولية معترف بها رسميا؛ فالأمم المتحدة أكدت عام 2010 أن الوصول إلى مياه شرب آمنة ومياه صالحة للاستخدام هو حق إنساني أساسي، وتترتب على الدول واجبات لاحترامه وحمايته وتحقيقه تدريجيا، في سياق العراق، يترتب على السلطات ضمان توزيع عادل للمياه، حماية مصادرها، واتخاذ إجراءات وقائية لمنع إخضاع فئات سكانية كاملة لخطر العطش أو فقدان سبل العيش، كما أن أي سياسات أو مشاريع تقود إلى تدهور موارد المياه دون تقييم بيئي واجتماعي ومشاركة المجتمعات المحلية قد تندرج ضمن إخفاقات في واجبات الحماية. 

موقف المنظمات الحقوقية

أصدرت منظمات حقوقية دولية ووطنية إنذارات ومطالب عاجلة بشأن تأثيرات التغير المناخي والجفاف على حقوق العراقيين؛ فمنظمة هيومن رايتس ووتش اعتبرت أن أزمة المناخ في العراق تحولت إلى قضية حقوق إنسان تتطلب استجابة فورية، ومنظمات دولية أخرى دعت إلى خطط طوارئ لحماية الأطفال والنساء والمزارعين، المراكز المحلية الحقوقية، ومنها المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، وصف الوضع بأنه ملامح كارثة إنسانية وشيكة، طالبت بإعلان حالة تأهب إنساني ووضع استراتيجية وطنية شاملة تشمل الشفافية والمشاركة المجتمعية وإشراك منظمات المجتمع المدني في الرقابة، وبدورها حذرت الأمم المتحدة ووكالاتها التقنية من أن استمرار الانخفاض في التدفقات سيؤثر سلبا في الأمن الغذائي ويزيد الحاجة إلى مساعدات إنسانية. 

بخلاف الحقوق الإنسانية الداخلية، يقوم القانون الدولي للمياه العابرة للحدود على مبدأَي الاستخدام العادل والمعقول ومنع التسبب بضرر كبير للدول المتلقية؛ وقد صاغت المواثيق الدولية قواعد التعاون والاشعار والتقييم للأثر، في حالة الأنهار الدولية مثل دجلة والفرات، فإن خفض التصريفات من دول المنبع وانعدام آليات توافقية قوية يعقد من قدرة العراق على الوفاء بالتزاماته تجاه مواطنيه، ويطرح أسئلة قانونية حول مسؤولية الدول المنبع في حال ثبت أن مشاريعها تسببت بشح مائي يلحق أضراراً جسيمة بالسكان. 

الجهود الحكومية العراقية والإعلانات عن برامج قصيرة ومتوسطة الأمد لمواجهة نقص المياه موجودة، إلا أن المراقبين يشيرون إلى بطء تنفيذ حلول مستدامة واستمرارية الاعتماد على استيراد الغذاء وإجراءات إنقاذية محدودة. المنظمات الحقوقية وطالبت بآليات شفافة لمراقبة توزيع المساعدات وبتوفير شبكات مياه طارئة وخطط نقل للمناطق الأكثر هشاشة، في المقابل، أكدت وكالات أممية على ضرورة دمج استراتيجيات التكيف مع المناخ في كل القطاعات وبتمويل دولي وتقني لتحديث شبكات الري وإدارة المياه الجوفية وحماية الأهوار. 

ماذا تطلب المنظمات؟

تتكرر المطالب العملية على مستويات متعددة: إعلان حالة تأهب إنسانية وطنية، وضع خطة شاملة للتوزيع المائي والحماية الاجتماعية، تنفيذ تقييم مستقل للأضرار البيئية، فتح قنوات تفاوضية مع دول المنبع حول حصص المياه، وإطلاق برامج دعم للمزارعين والبدائل الزراعية المقاومة للجفاف، كما تطالب المنظمات بحقّ المواطن في المعلومات والشفافية بشأن عقود استغلال المياه ومشاريع صناعية قد تستهلك موارد حيوية. 

أزمة الجفاف في العراق ليست مجرد مشكلة تقنية أو بيئية، بل هي أزمة متعددة الأوجه تحمل تبعات مباشرة على حقوق الإنسان الأساسية واستقرار المجتمعات وميراث بيئي وثقافي يمتد لآلاف السنين. المعطيات الميدانية والقانونية تشير إلى أن التأخير في اتخاذ إجراءات منهجية للتكيف والتعاون الإقليمي سيضاعف كلفة الحل لاحقا، ويزيد من أعداد المتضررين والمشردين، وتتلاقى توصيات المصادر الدولية والمحلية حول ثلاث أولويات قابلة للقياس.. إعلان حالة طوارئ إنسانية واضحة، حماية الوصول الفوري إلى مياه صالحة للشرب للفئات الضعيفة، وإطلاق مفاوضات إقليمية ملزمة حول إدارة تدفقات الأنهار مع آليات رصد دولية. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية