مليون وفاة تم تجنبها بالتحصين.. الوقاية تنتصر في سباقها مع سرطان عنق الرحم
مليون وفاة تم تجنبها بالتحصين.. الوقاية تنتصر في سباقها مع سرطان عنق الرحم
في لحظة يندر فيها الحديث عن النجاحات الصحية على مستوى العالم، يبرز إنجاز استثنائي أعلن عنه التحالف العالمي للقاحات غافي، يؤكد أن حملات التطعيم في البلدان منخفضة الدخل لم تعد مجرد أداة وقائية، بل وسيلة لإنقاذ الحياة على نطاق واسع، فقد أعلن التحالف الاثنين أن دعم برامج التحصين ضد فيروس الورم الحليمي البشري خلال السنوات الثلاث الماضية أسهم في تجنب أكثر من مليون وفاة ناجمة عن سرطان عنق الرحم، وهو رقم يضع هذه الجهود في مصاف أهم التحركات العالمية الصحية خلال العقد الأخير.
جاء هذا الإعلان ليكشف الأثر الحقيقي لبرنامج التطعيم الذي أعيد إطلاقه عام 2023، بهدف حماية ملايين الفتيات الصغيرات من هذا الفيروس الذي يعد السبب الرئيسي لأحد أكثر السرطانات فتكاً بالنساء، ومع اتساع نطاق العمل في الدول الفقيرة والنامية، اتضح حجم المكاسب التي تحققت خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً، بحسب فرانس برس.
حماية تتوسع بسرعة
أوضح التحالف العالمي للقاحات في بيانه أن نحو ست وثمانين مليون فتاة حول العالم أصبحت محمية فعلياً من أسباب الإصابة بسرطان عنق الرحم، وهو ما يعادل أجيالاً كاملة تحظى بفرصة حياة مختلفة وأكثر أماناً، ويرجع الفضل في ذلك إلى التعاون الواسع بين الحكومات المحلية والشركاء الدوليين والمجتمع المدني الذين استطاعوا خلال ثلاث سنوات فقط توفير اللقاح للفتيات في أكثر البيئات عرضة للخطر.
وأكدت رئيسة التحالف سانيا نيشتار أن الالتزام المحلي والدولي هو العامل الفاصل في تحقيق هذا النجاح المبكر، مشيرة إلى أن ما تحقق يتجاوز مجرد بلوغ أهداف صحية أولية، ليصبح خطوة مهمة نحو القضاء التدريجي على أحد أكثر الأمراض المسببة للوفاة لدى النساء، وقالت إن العالم لا يزال يشهد وفاة امرأة كل دقيقتين بسبب سرطان عنق الرحم، ما يجعل أي خطوة وقائية ذات أثر واسع ومستعجل.
مسؤولية إنقاذ حياة النساء في الدول الفقيرة
تتحمل البلدان ذات الدخل المنخفض العبء الأكبر من الإصابات والوفيات الناجمة عن سرطان عنق الرحم، نظراً لافتقارها إلى برامج الفحص المنتظم، وعدم تكافؤ فرص الحصول على العلاج، وفي عام 2022 وحده، كان تسعون في المئة من الوفيات المسجلة عالمياً والبالغة 350 ألف حالة قادمة من هذه البلدان، وهو ما يؤكد عمق الفجوة الصحية وتفاوت القدرة على الوقاية والعلاج.
ويتسبب فيروس الورم الحليمي البشري في معظم حالات هذا السرطان، لكن لقاحه أثبت فعالية عالية، وتشير بيانات التحالف إلى أن معدل الوفيات بين الأطفال الملقحين يبلغ سبعة عشر حالة فقط من كل ألف، ما يعزز الثقة العالمية في فعاليته وجدوى الاستثمار فيه.
لماذا يعد هذا الإنجاز مهماً
يشكل تحقيق هذه الحصيلة من الوقاية خلال ثلاث سنوات فقط نقطة تحول مهمة في المعركة العالمية ضد السرطان، فالتطعيم المبكر للفتيات قبل وصولهن سن النشاط الجنسي يحميهن من الفيروس المسبب، ويجنب الأنظمة الصحية في البلدان الفقيرة أعباءً مالية ضخمة، ويمنح النساء فرصة لحياة طولى وأكثر استقراراً، كما أن وصول اللقاح إلى مناطق كانت محرومة منه يمثل خطوة إضافية نحو العدالة الصحية على مستوى العالم.
وبحسب تقديرات "غافي"، فإن مجمل الجهود أسهمت حتى الآن في تجنب مليون وأربعمئة ألف وفاة، وهو رقم يعكس نجاح التحالف في ربط خفض تكلفة اللقاحات بزيادة عرضها وضمان التزامات طويلة الأمد من الشركات المصنعة، وتتراوح تكلفة الجرعة الواحدة في البلدان التي يدعمها التحالف بين نحو ثلاثة إلى خمسة دولارات، مقارنة بمئة دولار أو أكثر في الدول ذات الدخل المرتفع، وهذا الفارق الهائل في السعر يمنح الدول الفقيرة فرصة حقيقية لتطبيق برامج تحصين واسعة دون أعباء مالية تفوق قدراتها.
دول جديدة تدخل مرحلة الحماية
يتوقع أن يتجاوز عدد الدول التي ستدرج اللقاح بدعم من غافي خمسين دولة بحلول نهاية عام 2025، واللافت أن هذه الدول تمثل مجتمعة ما يقارب تسعين في المئة من حالات سرطان عنق الرحم حول العالم، ما يعني أن توسع برامج التطعيم يقترب فعلياً من احتواء المرض في الأماكن الأكثر عرضة لانتشاره.
وكان قرار منظمة الصحة العالمية عام 2022 باعتماد جرعة واحدة فقط من اللقاح بدلاً من جرعتين نقطة تحول مهمة، إذ سمح بالاستفادة من الكميات المتوفرة لتطعيم ضعف عدد الفتيات، وأسهم في تسريع وتيرة العمل في المناطق ذات الوصول المحدود.
قصص خلف الأرقام
ورغم أن البيانات الصادرة عن التحالف تحمل أرقاماً كبيرة، فإنها تخفي خلفها قصصاً إنسانية تتكرر في كل منطقة من مناطق العالم المنخفض الدخل، وفي قرى نائية ومناطق حضرية مكتظة، كانت فتيات صغيرات يتوجهن إلى العيادات المحلية لتلقي التطعيم الذي سيمنحهن حماية مستقبلية من مرض قاتل، وترى آلاف الأسر التي عانت في الماضي من فقدان الأمهات بسبب سرطان عنق الرحم اليوم في هذا اللقاح بارقة أمل لجيل جديد من النساء اللواتي يمكن أن يكبرن دون هذا التهديد الذي ظل يلاحق المجتمع لعقود.
وفي بلدان كثيرة، جسد توفير اللقاح قصة نجاح اجتماعية تتجاوز الصحة وحدها، فالتعاون بين العاملين الصحيين والمعلمين والقيادات المجتمعية شكل نموذجاً لكيف يمكن للمجتمع أن يتحرك بشكل مشترك في مواجهة خطر يهدد حياة النساء.
تحديات لا تزال قائمة
رغم هذا النجاح، فإن الطريق نحو القضاء الكامل على سرطان عنق الرحم ما يزال طويلاً، فالوصول إلى كل الفتيات في المناطق النائية يتطلب استثمارات مستمرة وقدرة على التغلب على العوائق اللوجستية والجغرافية، كما أن مواجهة المعلومات المضللة حول اللقاحات تبقى إحدى أكبر العقبات التي تحد من انتشارها في بعض المجتمعات.
ويحذر الخبراء من أن أي تراجع في الدعم المالي أو ضعف في الإمدادات قد يؤدي إلى فجوة تعيد المرض إلى الواجهة من جديد، خصوصاً في الدول التي تعتمد بشكل كامل على المنح الدولية لتمويل برامج التحصين.
ومع ذلك، ترى غافي أن النجاح الذي تحقق خلال السنوات الثلاث الماضية يشكل قاعدة صلبة يمكن البناء عليها، فالالتزام الدولي ما زال مستقراً، والشركات المصنعة تواصل الاستثمار في إنتاج اللقاحات بأسعار منخفضة، كما أن الوعي الصحي في ازدياد تدريجي في المجتمعات المستهدفة.
الخطوة المقبلة نحو حماية أوسع
في المرحلة المقبلة، يسعى التحالف إلى توسيع جهود التوعية وتشجيع الحكومات على تعزيز برامج التحصين الوطنية، لضمان أن يصبح الحصول على اللقاح جزءاً أساسياً من الرعاية الصحية الروتينية للفتيات، كما يشدد الخبراء على أهمية دمج التطعيم مع برامج الفحص المبكر للنساء، بهدف تقليل الحالات التي لا يزال من الممكن علاجها في مراحلها الأولى.
ويرى متخصصون أن الاستثمار في تطعيم الفتيات الآن يشكل ضماناً لمستقبل صحي لأجيال قادمة، وأن الفوائد بعيدة المدى لهذه الخطوة تتجاوز حدود الوقاية الصحية لتشمل الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلدان الأكثر هشاشة.
سرطان عنق الرحم ولقاح فيروس الورم الحليمي البشري
يعد فيروس الورم الحليمي البشري من أكثر الفيروسات المنتقلة جنسياً انتشاراً حول العالم، وهو السبب الرئيسي لسرطان عنق الرحم، ورغم إمكانية علاج المرض في مراحله الأولى، فإن معظم النساء في الدول الفقيرة لا يحصلن على الفحوص اللازمة للكشف المبكر، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الوفاة، ويعد لقاح فيروس الورم الحليمي البشري أحد أنجح اللقاحات في تاريخ الصحة العامة، وقد أثبت فعاليته في تقليل الإصابات بشكل كبير عند تلقيه قبل سن البلوغ، وتوصي منظمة الصحة العالمية بإعطاء جرعة واحدة للفتيات بين التاسعة والرابعة عشرة، باعتبارها كافية لتوفير حماية طويلة الأمد، ومع توسع برامج التطعيم عالمياً، تتزايد الآمال في القضاء على سرطان عنق الرحم خلال العقود المقبلة، خاصة إذا تزامنت جهود التحصين مع تحسين خدمات الفحص والعلاج في الدول منخفضة الدخل.








