أقمار تتساقط وبيانات تختفي.. تحذيرات من انهيار منظومة رصد الأرض جراء خفض التمويل
أقمار تتساقط وبيانات تختفي.. تحذيرات من انهيار منظومة رصد الأرض جراء خفض التمويل
أطلق عالم المناخ بيتر ثورن تحذيرا لافتا، الأربعاء، خلال مقابلة مع وكالة فرانس برس، مما وصفه بمرحلة الظلام التي قد يدخلها العالم نتيجة التراجع الحاد في التمويل الأمريكي المخصص لعمليات رصد الأرض عبر الأقمار الاصطناعية.
وجاء تحذيره في وقت تتزايد فيه الحاجة الدولية لتوسيع قدرات الرصد المتعلقة بتغير المناخ، بينما تتسارع وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة التي تضرب مختلف القارات، وقال ثورن إن أي خفض كبير في التمويل لن يقتصر أثره على الولايات المتحدة، بل سيمتد ليطال دقة التوقعات المناخية والبيانات الحيوية التي يعتمد عليها العلماء لرصد اتجاهات المناخ وتحليل التغيرات العميقة في الغلاف الجوي والبحار.
حافة نقص معرفي
يعد ثورن أحد أبرز العلماء في جامعة ماينوث في إيرلندا ونائب مدير النظام العالمي لرصد المناخ، وهو برنامج معني بجمع البيانات وتحليلها عبر منظومة تمتد من الأقمار الاصطناعية إلى مجسات المحيطات وبالونات الطقس، ويشير إلى أن ما يحدث الآن يمثل المرة الأولى التي يتم فيها التخطيط لخفض قدرات الرصد بدلا من زيادتها، رغم أن الحاجة إليها اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، ويؤكد أن هذا التراجع المحتمل يعني أن البشرية قد تفقد بعضا من أدواتها الأساسية في فهم مناخ الأرض الذي يمر بمنعطف تاريخي.
أوضح ثورن أن الضغوط المتزايدة على منظومات الرصد، خاصة في الولايات المتحدة، أدت بالفعل إلى انخفاض في عدد بالونات الطقس بنسبة تتراوح بين ثلاثة عشر وستة عشر في المئة، بسبب تقليص الموظفين المكلفين بإطلاقها، ويعد هذا التراجع مؤشرا خطيرا، لأن هذه البالونات توفر بيانات جوية أساسية تستخدم في التوقعات القصيرة والمتوسطة المدى في أنحاء العالم، وأضاف أن تأثير ذلك يمتد إلى أوروبا وآسيا، لأن التنبؤات الجوية تعتمد على تبادل البيانات الدولية، ما يجعل أي نقص في أحد أطراف الشبكة مؤثرا على كامل المنظومة.
نقص في الأقمار الاصطناعية
أكثر المخاوف التي عبر عنها ثورن تتعلق بإمكانية وقف إطلاق أقمار اصطناعية جديدة تابعة لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا أو للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي. ويقول إن المقترحات الأمريكية المطروحة تتضمن إلغاء قدرات رئيسية للأقمار المستقبلية، ما يعني أن العالم قد يخسر بشكل دائم بيانات كان يعتمد عليها لتتبع تغييرات دقيقة في درجات الحرارة وحركة المحيطات وطبقات الغلاف الجوي، ويضيف أن وكالات الفضاء الأخرى في أوروبا واليابان والصين والهند لا تملك قدرات بديلة تمنع وقوع فجوة تمتد لسنوات أو عقود، وأن فقدان هذه البيانات سيلقي ظلالا واسعة على فهم مسار تغير المناخ.
رصد المحيطات في خطر
كشف ثورن أيضا أن الولايات المتحدة تقدم نصف القدرات التشغيلية لبرنامج أرغو العالمي، وهو شبكة ضخمة من العوامات التي تراقب حرارة المحيطات ومعاييرها المختلفة. ويمثل هذا البرنامج العمود الفقري لفهم توزيع الحرارة في الكوكب، إذ تشير الدراسات إلى أن المحيطات تمتص نحو تسعين في المئة من حرارة الأرض الزائدة الناتجة عن انبعاثات الغازات الدفيئة، وتراجع الدعم الأمريكي لهذه البرامج سيجعل فهم هذه العملية أكثر صعوبة، مما يضعف قدرة العلماء على التنبؤ بالظواهر المرتبطة بارتفاع درجات المحيطات.
خطر على التوقعات الموسمية
من أبرز الأمثلة التي عرضها ثورن ما يتعلق بالعوامات المثبتة في المحيط الهادئ لمراقبة ظاهرة النينيو، وهي ظاهرة مناخية تؤثر بشكل مباشر على الأحوال الجوية في مناطق واسعة من العالم. وتشكل هذه العوامات أساسا لتوقعات الشتاء في الولايات المتحدة، كما تمثل مرجعا مهما لبرامج الإنذار المبكر في العديد من الدول الاستوائية والإفريقية، ويشير ثورن إلى أن تراجع قدرات الرصد سيؤدي إلى توقعات أقل دقة، ما يهدد خطط الزراعة وإدارة المياه والتخطيط الاقتصادي في الدول المتأثرة بالنينيو.
مخاوف من فجوة زمنية
أبدى ثورن قلقا من احتمال أن تتسبب الفجوات الزمنية التي قد تنشأ عن غياب الأقمار الأمريكية في انقطاع كبير بقدرات مراقبة الأرض، وأكد أن تحسين أنظمة الرصد يتطلب استمرارية من دون انقطاع، لأن البيانات المناخية تعتمد على أرشيف طويل الأمد لقياس التغيرات الدقيقة، وفي حال توقف الأقمار الاصطناعية الحالية دون توفر بديل، سيجد العلماء أنفسهم أمام ثغرات لا يمكن سدها لاحقا، ما يعني أن الإنسانية ستفقد القدرة على فهم بعض التحولات التي قد تكون حاسمة في مسار تغير المناخ.
مشهد عالمي يحتاج تضامنا
ورغم المخاوف، يرى ثورن أن هناك مبادرات قائمة من جهات دولية مختلفة لإطلاق مهمات رصد جديدة، لكنها ستكون غير كافية لتعويض الانقطاع المحتمل في القدرات الأمريكية، ويشدد على أن هذه البرامج يجب أن تكون جزءا من خطة عالمية منسقة، لأن المناخ لا يعرف الحدود، وأي خلل في جزء من النظام ينعكس على العالم بأسره، ويعتقد كثير من علماء المناخ أن الأزمة الحالية يمكن أن تشكل فرصة لوضع استراتيجية دولية جديدة تحظى بتوافق أكبر وتضمن ثبات التمويل واستمرارية الرصد.
انعكاسات على حياة البشر
تمتد آثار ضعف الرصد المناخي إلى تفاصيل الحياة اليومية للبشر، فالتوقعات الجوية الدقيقة تحمي الأرواح خلال العواصف والفيضانات وموجات الحر. وتمثل المعلومات المتعلقة بالمحيطات أساسا لسلامة الملاحة البحرية ولإدارة الثروات السمكية، كما تحدد بيانات الغلاف الجوي مسارات الطيران وتحذيرات الطقس القاسي التي تعتمد عليها شركات الطيران، ومع تراجع هذه البيانات، ستتقلص قدرة الحكومات على اتخاذ القرارات المتعلقة بالبنية التحتية والغذاء والطاقة، في وقت تتزايد فيه المخاطر المناخية بوتيرة لم يشهدها العالم من قبل.
انعكاسات اقتصادية وعلمية
يرى الخبراء أن تراجع قدرات الرصد سيؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي، فغياب التوقعات الدقيقة قد يربك أسواق الغذاء ويؤدي إلى خسائر في المحاصيل الزراعية نتيجة سوء التوقعات الجوية، كما سيحد من قدرة العلماء على تطوير نماذج مناخية قادرة على التنبؤ بالمسارات المستقبلية للاحترار العالمي، ومع استمرار هذا الوضع، قد تجد الدول نفسها مضطرة لإنشاء أنظمة موازية بتكاليف باهظة، ما يزيد الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة في مجال المعرفة المناخية.
تعد الأقمار الاصطناعية ووسائل الرصد الجوي والبحري جزءا أساسيا من منظومة مراقبة المناخ العالمية منذ منتصف القرن العشرين، وقد قادت الولايات المتحدة منذ السبعينيات الجهود المتعلقة بتطوير أدوات متقدمة لقياس درجات الحرارة ورطوبة الغلاف الجوي وأنماط الرياح وحرارة المحيطات، وترتبط بيانات الأقمار بعمليات تشغيلية تستخدمها الحكومات ووكالات الإغاثة ومنظمات البحث العلمي، ويمثل برنامج أرغو الذي بدأ مطلع الألفية أحد أهم شبكات مراقبة المحيطات، وهو يعتمد على آلاف المجسات العائمة. كما تعتمد توقعات الطقس اليومية والموسمية على بيانات بالونات الطقس التي تحلق في طبقات الجو العليا منذ عقود.
وقد لعبت هذه الأنظمة دورا محوريا في تتبع آثار الاحترار العالمي، وإثبات الارتفاع المتسارع في درجة حرارة الأرض، وتحليل الظواهر الكبرى مثل ذوبان الجليد والنينيو، ويشير الخبراء إلى أن فقدان أي جزء من هذه السلسلة سيخلق فجوات معرفية معقدة، لأن المناخ نظام مترابط يحتاج إلى رصد متصل دون انقطاع، وهو أمر قد يتعرض للخطر في حال استمرار التراجع في التمويل الأمريكي.










