تغير المناخ يضغط على القارة الأوروبية.. أزمة تتفاقم بين موارد منهكة وحلول مؤجلة
تغير المناخ يضغط على القارة الأوروبية.. أزمة تتفاقم بين موارد منهكة وحلول مؤجلة
حذّر تقرير جديد أصدرته الوكالة الأوروبية للبيئة، الاثنين، من أن التغير المناخي والتدهور البيئي باتا يشكلان خطراً مباشراً على مستقبل الاقتصاد الأوروبي، القائم بالأساس على موارد طبيعية تتعرض لاستنزاف متسارع، ورغم إشادة التقرير بما وصفه بـ"التقدم المهم" الذي أحرزته دول الاتحاد في خفض التلوث وانبعاثات الغازات الدفيئة، فإن التحذير الأبرز تمثل في أن نمط الحياة الأوروبي نفسه بات مهدداً ما لم تلتزم القارة بخطوات أكثر جرأة نحو حماية البيئة.
التقرير، الذي يصدر كل خمس سنوات تحت عنوان "بيئة أوروبا 2025"، هو السابع منذ انطلاق هذه السلسلة عام 1995، بحسب ما أوردته شبكة "يورونيوز"، وقد شارك في إعداده كبار العلماء والخبراء البيئيين عبر شبكة المعلومات والمراقبة البيئية الأوروبية (Eionet)، ما يضفي عليه ثقلاً علمياً وسياسياً يجعله مرجعاً رئيسياً لصانعي القرار.
إنجازات ملموسة ومكانة ريادية
يصف التقرير الاتحاد الأوروبي بأنه "الرائد عالمياً" في مكافحة التغير المناخي، فمنذ عام 2005 نجحت بروكسل في تقليص استخدام الوقود الأحفوري وخفض الانبعاثات، بالتوازي مع مضاعفة حصة الطاقة المتجددة في مزيجها الطاقي، كما تحسنت جودة الهواء في معظم المدن الأوروبية، وتزايدت معدلات إعادة تدوير النفايات، في حين سجلت مؤشرات الاستدامة الأخرى مثل التمويل الأخضر والوظائف البيئية نمواً ملحوظاً.
هذه الخطوات عززت صورة أوروبا كونها قوة دولية في مجال السياسات البيئية، وأعطت دفعة لجهودها الدبلوماسية على الساحة العالمية، غير أن هذه النجاحات لا تحجب صورة مقلقة لواقع بيئي هشّ يهدد البنية الاقتصادية والاجتماعية على المدى المتوسط والطويل.
التنوع البيولوجي تحت الضغط
التقرير رصد بوضوح تدهور النظم البيئية البرية والمائية والبحرية، نتيجة أنماط الاستهلاك والإنتاج غير المستدامة، أكثر من 80% من المواطن الطبيعية المحمية في القارة توصف بأنها في حالة "ضعيفة أو سيئة"، ما يعكس إخفاقاً في حماية التنوع البيولوجي رغم السياسات والاتفاقيات المعلنة.
النظام الغذائي الأوروبي، القائم على زراعة مكثفة واستهلاك مرتفع للحوم والمنتجات الحيوانية، يُعتبر من أبرز مسببات الضغوط على البيئة، وفي ظل الاتجاهات الحالية، من المستبعد أن تنجح أوروبا في بلوغ أهدافها البيئية بحلول 2030، سواء في مجالات حماية الطبيعة أو إعادة تأهيل النظم البيئية.
أزمة المياه وتراجع امتصاص الكربون
الموارد المائية في أوروبا تواجه بدورها تحديات متزايدة. ثلث السكان يعانون بالفعل من شحّ المياه بدرجات متفاوتة، في حين تتوقع النماذج المناخية أن تتفاقم هذه الأزمة مع ارتفاع درجات الحرارة وزيادة موجات الجفاف.
وفي الوقت ذاته، تراجعت قدرة الاتحاد الأوروبي على امتصاص الكربون بنحو 30% خلال العقد الماضي، نتيجة الحرائق واسعة النطاق، وقطع الأشجار، وانتشار الآفات التي تفتك بالغابات، وهذه التطورات تنذر بخسارة أحد أهم خطوط الدفاع الطبيعية ضد التغير المناخي.
أما قطاعا النقل والغذاء، فقد سجلا ركوداً في مستويات الانبعاثات منذ 2005، ما يعني أن التقدم في قطاعات الطاقة والصناعة لا يكفي وحده لتحقيق الحياد الكربوني الذي تسعى إليه أوروبا بحلول منتصف القرن.
قصور في التكيّف مع الكوارث المناخية
إلى جانب خفض الانبعاثات، يواجه الاتحاد الأوروبي تحدياً آخر يتمثل في ضعف قدرته على التكيف مع الظواهر الجوية المتطرفة، فالتقرير يلفت إلى أن وتيرة الإجراءات المتخذة لم تواكب تصاعد المخاطر، حيث شهدت القارة خلال السنوات الأخيرة فيضانات عارمة وحرائق غابات غير مسبوقة وموجات حر قتلت الآلاف.
هذا القصور في التكيّف يكشف ثغرة خطِرة في السياسات الأوروبية، ويطرح تساؤلات حول جاهزية أنظمة الصحة والبنية التحتية للتعامل مع صدمات مناخية مرجّح أن تصبح أكثر تواتراً وحدة في العقود المقبلة.
إعادة النظر في العلاقة بين الاقتصاد والبيئة
التقرير شدد على أن استعادة التوازن البيئي في أوروبا ضرورة ملحّة للحفاظ على اقتصاد تنافسي ومستوى معيشي مرتفع، وحذّر من أن أي تراجع أو تساهل في تطبيق القواعد البيئية والخضراء قد ينعكس مباشرة على النمو الاقتصادي وفرص العمل.
الحلول المقترحة تتطلب إعادة هيكلة عميقة لأنظمة الإنتاج والاستهلاك، عبر التحول إلى الاقتصاد الدائري، وتعزيز الكفاءة في إدارة الموارد، والتقليل من التلوث بجميع أشكاله، ويرى التقرير أن "الصفقة الخضراء الأوروبية" تمثل خريطة طريق واضحة، لكن التنفيذ الفعلي يظل مرهوناً بالإرادة السياسية والالتزام طويل المدى.
معركة بقاء تتجاوز حدود القارة
ما يلفت الانتباه في التقرير أن التحذيرات الأوروبية ليست مجرد قضية محلية، بل هي جزء من صورة أشمل لأزمة مناخية عالمية تهدد جميع الاقتصادات والمجتمعات، فالقارة التي حققت تقدماً نسبياً لا تزال تعاني من هشاشة بيئية، ما يعني أن الدول النامية والناشئة، الأقل قدرة على التكيّف والتمويل، قد تواجه أزمات أشد قسوة إن لم تتكاتف الجهود الدولية.
وبينما تتجه الأنظار إلى قمم المناخ العالمية، يطرح تقرير "بيئة أوروبا 2025" رسالة ضمنية: إن العمل المناخي لم يعد خياراً أخلاقياً أو بيئياً فقط، بل هو ضرورة اقتصادية وجودية.
أزمة المناخ العالمية
تغير المناخ لم يعد سيناريو مستقبلياً، بل واقع يعيشه العالم يومياً، وفق الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، ارتفعت درجة حرارة الأرض بمقدار 1.2 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية، هذا الارتفاع البسيط نسبياً يكفي لإحداث موجات حر مميتة وما يرافقها من حرائق غابات وخسائر اقتصادية وبشرية، وذوبان جليد غير مسبوق، وارتفاع مستويات البحار، وتفاقم الكوارث الطبيعية.
التقارير الدولية تشير إلى أن نحو 3.5 مليار إنسان يعيشون في مناطق معرضة بشدة لتداعيات التغير المناخي. وفي حال استمرار الاتجاهات الحالية، قد يفقد مئات الملايين مصادر رزقهم، سواء بسبب الجفاف الذي يضرب الأراضي الزراعية أو الفيضانات التي تدمر المدن الساحلية.
الاقتصاد العالمي يواجه بدوره مخاطر جمّة، حيث تقدّر الخسائر السنوية من الكوارث المرتبطة بالمناخ بمئات المليارات من الدولارات. أما القطاعات الأكثر تضرراً فهي الزراعة والطاقة والصحة والبنية التحتية.
ورغم التقدم في الطاقة المتجددة والالتزامات المناخية التي تعهدت بها أكثر من 190 دولة في إطار اتفاق باريس للمناخ، فإن الانبعاثات العالمية لم تنخفض بالوتيرة المطلوبة للحد من الاحترار عند 1.5 درجة مئوية، ما لم تتضاعف الجهود، فإن العقود المقبلة قد تشهد أزمات غذاء ومياه وهجرات بشرية واسعة النطاق، قد تعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية للعالم.