أزمات الميزانيات الأوروبية.. صراع بين الاستدامة الاقتصادية والحقوق الاجتماعية
أزمات الميزانيات الأوروبية.. صراع بين الاستدامة الاقتصادية والحقوق الاجتماعية
واجهت وزيرة الخزانة البريطانية، راشيل ريفز، المأزق السياسي والاقتصادي بعد فوز حزب العمال الساحق في انتخابات يوليو 2024، عندما تعهدت بوضع حدّ "للمماطلة" و"الفوضى" وإصلاح المالية العامة في اقتصاد وصفت أنه "تُرك في أسوأ حالاته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".
ووفقاً لصحيفة "فايننشيال تايمز"، عرضت ريفز على الناخبين زيادة الضرائب لتحسين التمويل العام، لكنها وجدت نفسها محاصرة بين وعودها الانتخابية والواقع المالي الصعب، مع توقع زيادات ضريبية ستُبقي الخدمات العامة تعاني من نقص التمويل، في ظل اقتصاد راكد لا يزال نمو الإنتاجية فيه بعيد المنال.
وحذر الخبير الاقتصادي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في باريس، سيباستيان بارنز، من أن "التحدي هائل"، وأن الحلول تتطلب تعديلات كبيرة على جانبي الإنفاق والضرائب، وهو ما لم تشهده الحكومات الأوروبية منذ عقود.
كما أكد صندوق النقد الدولي على أن "التدبر في الأمر" لن يكون كافيًا، وأن الحكومات ستحتاج إلى خفض الإنفاق بشكل كبير، مع إعادة النظر في العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين.
استدامة العقد الاجتماعي
أظهر تحليل لـ"فايننشيال تايمز" أن الحكومة البريطانية اضطرت للتراجع عن إصلاحات رئيسية، منها تخفيضات الرعاية الاجتماعية وزيادة ضريبة الدخل؛ بسبب رفض نواب البرلمان لهذه الإجراءات. وبالمثل، علقت فرنسا إصلاح نظام التقاعد وسط اضطرابات سياسية متكررة، في حين واجه المستشار الألماني فريدريش ميرز تمردًا من جناح الشباب في حزبه بسبب مشروع قانون للمعاشات التقاعدية اعتبره سخيًا لجيل طفرة المواليد.
وحذر صندوق النقد الدولي من أن الرعاية الاجتماعية السخية، والرعاية الصحية الشاملة، والتعليم المجاني كانت "حاسمة" للنمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي بعد الحرب، وأنه لا مفر من مناقشة نطاق واستدامة "النموذج الأوروبي".
وفي هذا السياق، أظهر تقرير مجلس الخبراء الاقتصاديين الألماني أن جزءًا كبيرًا من الاقتراض الجديد المخصص للاستثمار يُستخدم في الإنفاق المنتظم، ومنها إعفاءات ضريبية وزيادات في معاشات التقاعد للأمهات غير العاملات، ما يعكس ضغوطًا مستمرة على الميزانية العامة.
تكلفة حياة غير مستدامة
ووفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، واجهت فرنسا استقالات متتابعة لرؤساء الوزراء بسبب الأزمة المالية والاجتماعية، ومنها استقالة سيباستيان ليكورنو بعد أربعة أسابيع فقط من توليه منصبه، إثر عجزه عن تمرير ميزانية تتطلب تخفيضات كبيرة تصل إلى 44 مليار يورو، ومنها تثبيت مدفوعات المعاشات وإلغاء عطلتين رسميتين.
ورصد الباحث البارز في معهد جاك ديلور، أندرياس إيسل، أن تكاليف المعيشة المرتفعة في فرنسا تشمل الرعاية الصحية والتعليم والتقاعد، وأن ارتفاع الإنفاق الاجتماعي أصبح لا يُطاق في ظل تراجع الدخل والنمو الاقتصادي الضعيف.
وأضاف أن أوروبا، وخاصة فرنسا وألمانيا، تواجه تحديًا مزدوجًا: الحاجة إلى الحفاظ على مستوى المعيشة للطبقات الأقل قدرة على تحمل الأعباء، في الوقت الذي تُطالب فيه الأسواق بخفض الدين العام وتحقيق الاستدامة المالية.
وأكدت أنستازيا بلاي، مساعدة تصوير في باريس، لصحيفة "واشنطن بوست"، أن الدعم الاجتماعي يساعدها على "الحفاظ على كرامتها والعيش بكرامة"، معتبرة أن هذه المدفوعات "حق وليست امتيازًا".
وفي المقابل، يرى رائد الأعمال إريك لارشفيك أن الحكومة بحاجة إلى تخفيضات كبيرة في المعاشات والرعاية الاجتماعية، مع تبني إصلاحات ضريبية شاملة لضمان استدامة النظام المالي، رغم أن التأثير سيكون "كبيرًا للغاية".
صعوبات الإصلاح في ألمانيا
دعا المستشار الألماني فريدريش ميرز إلى إصلاح شامل لمزايا الرعاية الاجتماعية، ومنها تخفيضات في دعم الإيجارات وتشديد العقوبات على العاطلين عن العمل لفترات طويلة، مؤكدًا أن "النظام الحالي لم يعد قابلًا للتحمل".
ووفقاً للصحيفة الأمريكية، واجه ميرز تحديات سياسية كبيرة، خاصة مع شركائه في الائتلاف الحاكم، الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي عارض تقليص الدعم الاجتماعي، في حين تظل الأسر الألمانية تتلقى مبالغ قد تصل إلى 5000 يورو شهريًا، وهو ما يضع ضغطًا إضافيًا على الميزانية.
وبحسب المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين، فإن هذا الإنفاق الكبير يجعل أي إصلاح سياسي اجتماعي أمرًا صعبًا، ويحتاج إلى توافق واسع بين الأحزاب السياسية، في حين يبقى الحفاظ على مستوى الرعاية الاجتماعية محوريًا لتجنب تفاقم الفجوة بين الأجيال وتقويض العقد الاجتماعي.
صعود اليمين
من جانبها، أشارت صحيفة "الغارديان" إلى أن الركود الاقتصادي، وانخفاض الأجور، والتقشف، أسهمت في تصاعد السخط الشعبي على الأحزاب التقليدية، مع زيادة شعبية الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وجاءت محاولات الحكومات لإصلاح العقود الاجتماعية عن طريق تقليص الإنفاق العام لتثير رفضًا شعبيًا واسعًا.
وقالت الصحيفة إن محاولات السير كير ستارمر في بريطانيا لاستهداف متلقي إعانات ذوي الإعاقة لم تحقق النجاح المرجو، ما أثر سلبًا في حزب العمال، في حين حاول فرانسوا بايرو في فرنسا فرض تخفيضات كبيرة في الإنفاق الاجتماعي قبل أن يواجه عراقيل برلمانية وعامة.
وأضافت أن ميرز في ألمانيا اعتمد خطابًا عن ضرورة العمل والإسهامات الجماعية لخفض الدين العام، لكن الناخبين لم يستجبوا للحجج، إذ يرون أن الضغط على الفئات الأكثر ضعفًا غير عادل.
العدالة الاجتماعية
من جهة أخرى، أبرزت صحيفة واشنطن بوست"، اختلاف الأجيال في تحمل أعباء الإصلاح المالي، مع تأكيد ويليم أديما، الخبير الاقتصادي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن النظام يجب أن يصبح أقل سخاءً، وأن الخلافات تتركز بين الشباب وكبار السن، والأغنياء والفقراء، والريفيين والحضريين.
ذكرت كريستين بوكو-بودورسكي، 75 عامًا، متقاعدة في روبيه، أنها مستعدة لدفع المزيد من الضرائب لدعم الفئات الأكثر ضعفًا، مشيرة إلى أن الدولة يجب أن توازن بين الحفاظ على المعاشات الحالية ومساعدة المحتاجين. في المقابل، يعكس موقف الشباب مثل بلاي غضبهم من أن أجيالهم قد تتحمل أعباء استدامة المزايا التي استفاد منها الأجداد، ما يخلق توترًا اجتماعيًا مستمرًا.
وسعى غيوم ديلبار، عمدة روبيه، إلى تحويل المواقع الصناعية السابقة إلى متاحف ومساحات عمل مشتركة، مع التركيز على الاقتصاد الدائري ومبادئ "صفر نفايات" لتوفير فرص عمل جديدة، لكنه أقر بأن هذه المبادرات حققت تأثيرًا محدودًا في التوظيف، حيث أوجدت عشرات أو مئات الوظائف فقط.
وأضاف ديلبار أن المدينة يجب أن تتكيف مع متطلبات العصر للحفاظ على مستوى المعيشة ونمط الحياة الأوروبي، وأن العودة إلى النماذج القديمة غير ممكنة، مؤكدًا أن الابتكار المحلي ضروري لدعم العقد الاجتماعي وتخفيف الضغوط المالية.
أوروبا تواجه أزمة مركبة
أظهرت المصادر الثلاثة أن أوروبا الغربية تواجه أزمة مركبة تشمل الضغوط المالية على الدولة، والتحديات السياسية للإصلاح، وتزايد الفجوة بين الأجيال، وصعود الحركات الشعبوية.
وأكدت فشل المحاولات التقليدية لتجديد العقود الاجتماعية عن طريق تخفيضات مباشرة في الإنفاق، وأن الضغط على الفئات الأضعف لن يُجدِي، وأن التحول الجذري للنموذج الاقتصادي والاجتماعي أصبح ضرورة لتجنب انهيار العقد الاجتماعي في المستقبل.
وتشير التحليلات إلى أن الحلول لا تكمن فقط في تخفيض الإنفاق العام، بل في ابتكار سياسات جديدة للنمو الاقتصادي، وإعادة توزيع الأعباء بين الأجيال والأثرياء والفقراء، مع الحفاظ على الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنين الأساسية في الرعاية الصحية والتعليم والتقاعد، وهي حقوق تشكل العمود الفقري للعقد الاجتماعي الأوروبي










