"روحوا بلادكم".. ليبيا بين الغضب الشعبي وتداعيات الهجرة غير النظامية
"روحوا بلادكم".. ليبيا بين الغضب الشعبي وتداعيات الهجرة غير النظامية
انتشرت عبارة "روحوا بلادكم" على مواقع التواصل الاجتماعي في ليبيا خلال الأسابيع الأخيرة لتختزل حالة الرفض المتزايد لوجود المهاجرين غير النظاميين، خاصة بعد تزايد تدفق اللاجئين السودانيين إلى الحدود الليبية هربا من تداعيات الحرب في بلادهم.
وتشير آخر إحصاءات مفوضية اللاجئين إلى أن عدد السودانيين الذين وصلوا إلى ليبيا يقترب من نصف مليون شخص، وهو رقم يعكس حجم الكارثة الإنسانية ويكشف في الوقت نفسه الضغط الهائل الذي بات يواجهه المجتمع الليبي.
وذكر تقرير نشرته "إندبندنت عربية"، الثلاثاء، أنه في العاصمة طرابلس، خرج نشطاء "طرابلس لا للتوطين" في تظاهرة جديدة للمطالبة بوقف أي قوانين قد تقود بشكل غير مباشر إلى استقرار المهاجرين في ليبيا، ويقول مشاركون في التظاهرة إن البلاد لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الأعباء، في ظل ظروف اقتصادية متردية وانقسام سياسي مستمر.
وفي المقابل، تحكي أمينة، وهي لاجئة سودانية وصلت إلى ليبيا قبل أشهر، تجربتها بمرارة مؤكدة أنها لا تشجع أحدا على القدوم إلى ليبيا وأن الهجرة غير النظامية تتحول في كثير من الأحيان إلى معاناة إنسانية تفوق قدرة البشر على الاحتمال.
في أكتوبر 2023 أعلنت المنظمة الدولية للهجرة أن عدد المهاجرين غير النظاميين في ليبيا بلغ أكثر من ثمانمئة وستة وستين ألف شخص حتى نهاية سبتمبر الماضي، بزيادة كبيرة مقارنة بعام 2024. ويتركز معظمهم في غرب البلاد، حيث تتصدر الجنسية السودانية القائمة، تليها جنسيات من النيجر ومصر وتشاد، ومع ذلك، تشير المنظمة إلى أن الأعداد الحقيقية قد تكون أكبر بكثير من الأرقام المعلنة بسبب صعوبة الوصول إلى بعض المناطق وغياب التوثيق الرسمي.
انعكاسات أمنية واجتماعية
تزايد رفض الليبيين لوجود المهاجرين غير النظاميين بعد الكشف عن تورط بعض الوافدين في جرائم مختلفة، وهو ما أدى إلى تصاعد حالة الاحتقان، فقد شهدت العاصمة طرابلس جريمة قتل داخل منزل للعمالة الوافدة، كما أثار انتشار مقطع فيديو يظهر مواطناً ليبياً يدهس طفلا وافدا صدمة واسعة.
وبرر المنفذ فعلته بأن الطفل كان يرشق السيارات بالحجارة، لكن الفعل ظل من منظور الشارع الليبي جريمة تستدعي المحاسبة، وأشعل المقطع موجة دعوات تطالب بترحيل المهاجرين والتشدد في الإجراءات الأمنية.
تباينت ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي بين من يدين العنف ويدعو إلى احترام القانون، ومن يرى أن ارتفاع معدلات الجريمة يجعل وجود المهاجرين خطرا على المجتمع.
وفي خضم هذا السجال، تساءل كثيرون عن غياب المعايير الواضحة لضبط الحدود وتنظيم وضع المهاجرين، وعن الدور الذي يفترض أن تتحمله المؤسسات الرسمية في إدارة الملف بما يمنع الانفلات ويضمن احترام حقوق الإنسان.
ضغوط دولية على الحكومة
تزامن التصعيد الداخلي مع ضغوط دولية كبيرة على حكومة الوحدة الوطنية لإغلاق مراكز الاحتجاز التي تقول منظمات حقوقية إنها تشهد انتهاكات جسيمة، وخلال جلسات الاستعراض الدوري الشامل في جنيف طالبت دول عدة ليبيا باحترام التزاماتها الدولية وحماية المهاجرين واللاجئين، وأكد القائم بأعمال وزير الخارجية أن التدفقات البشرية التي تمر عبر ليبيا نحو المتوسط تشكل عبئا اقتصاديا وأمنيا، معتبرا أن البلاد تواجه تحديا يتجاوز قدراتها في ظل الانقسام الحاد والأوضاع المتدهورة.
وأظهر تقرير حديث لمنظمة الهجرة الدولية تغييرا واضحا في نيات المهاجرين بعد وصولهم إلى ليبيا، ففي السابق كان أغلبهم يخططون للبقاء والعمل، لكن النسبة انخفضت إلى أقل من النصف، مقابل ارتفاع نسبة من يسعون للعبور إلى أوروبا، وتكشف هذه التحولات أن ليبيا لم تعد وجهة للاستقرار بل نقطة عبور محفوفة بالمخاطر، حيث يعاني المهاجرون من انعدام الحماية القانونية، ومن إمكانية تعرضهم للاعتقال أو الاحتجاز من دون معايير واضحة.
وتصف الحقوقية الليبية منى توكا ما يجري بأنه تجاوز مجرد الغضب الشعبي، معتبرة أنه نتيجة تراكم طويل للخطاب التحريضي الذي بات يختزل المهاجرين في صورة تهديد يجب التخلص منه، وتحذر من أن شرعنة هذا الخطاب تفتح الباب أمام عنف أعمق، وتؤدي إلى تجريد المهاجرين من إنسانيتهم وتعزيز نزعات عنصرية لا يمكن السيطرة عليها، وتشير إلى أن اختزال الأزمات التي تعانيها ليبيا وإلقاء اللوم على المهاجرين يعد تبسيطا يعوق المعالجة الحقيقية، ويمنح مؤسسات الدولة مبررات للهروب من مسؤولياتها في إصلاح المنظومة الأمنية والاقتصادية.
تحذر توكا من أن انتشار مقاطع العنف على مواقع التواصل يكبد ليبيا تكلفة كبيرة في صورتها الدولية، إذ تُستخدم هذه المواد في تقارير أممية وبيانات رسمية، ما يعزز الانطباع بأن البلاد غير قادرة على حماية حياة الإنسان، وترى أن هذا الواقع يضعف موقف ليبيا في أي مفاوضات دولية تتعلق بحقوق الإنسان، ويتناقض مع مطالبات ليبيا المستمرة بمعاملة الليبيين في الخارج بكرامة واحترام.
إفلات من العقاب
وفي السياق، قال الباحث في الهجرة غير النظامية ميمون الشيخ إن الإفلات من العقاب هو ما شجع على تكرار حوادث العنف، معتبرا أن بعض الأجهزة الأمنية غير قادرة على إدارة ملف المهاجرين بحكم غياب الإمكانات أو التضارب في الصلاحيات، ويشير إلى أن المعلومات المضللة وانتشار خطاب الكراهية أسهمت في خلق وعي سلبي تجاه المهاجرين، وهو ما شجع على حملات تطالب بالترحيل وحتى العنف، وتزامن ذلك مع تأثير مباشر للسياسات الأوروبية التي تضغط على ليبيا للحد من تدفق المهاجرين.
ومن جانب آخر، يربط عدد من المسؤولين الليبيين بين استمرار تدفق المهاجرين وبين تهديد الأمن القومي، ويؤكد عضو مجلس النواب جاب الله الشيباني أن الهجرة غير النظامية أصبحت خطرا مباشرا على النسيج الاجتماعي، وأن انتشار الجريمة والاحتيال ووجود جماعات إرهابية من بين أخطر التداعيات وفق "إندبندنت عربية"، كما دعت لجنة الأمن القومي إلى تشكيل لجنة سيادية لوضع آلية واضحة لإعادة المهاجرين إلى بلدانهم وحماية الهوية الوطنية.
أصبحت ليبيا منذ سقوط النظام السابق عام 2011 ممرا رئيسيا للمهاجرين الأفارقة الذين يسعون للوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وتفاقمت الأزمة بفعل الانقسام السياسي وتعدد الجهات الأمنية، ما جعل إدارة الحدود أمرا معقدا، وتعمل منظمات دولية عديدة في البلاد وسط تحديات كبيرة، فيما يتعرض المهاجرون لمخاطر شديدة تشمل العنف والاتجار والاحتجاز غير القانوني، وتعد ليبيا من الدول الأكثر ارتباطا بملف الهجرة في منطقة البحر المتوسط، حيث تتداخل فيها العوامل الأمنية والسياسية والاقتصادية في تشكيل واقع شديد التعقيد.










