من قصر الرئاسة إلى الزنزانة.. محكمة بيرو العليا تدين كاستيو بالتمرد وسط غضب مؤيديه

من قصر الرئاسة إلى الزنزانة.. محكمة بيرو العليا تدين كاستيو بالتمرد وسط غضب مؤيديه
الرئيس السابق بيدرو كاستيو

في تطور دراماتيكي يعكس عمق الأزمة التي تمر بها بيرو منذ سنوات، أصدرت المحكمة العليا في ليما حكما يقضي بسجن الرئيس السابق بيدرو كاستيو لمدة تتجاوز أحد عشر عاما بعد إدانته بتهمة التمرد على خلفية قراره المفاجئ حل الكونغرس نهاية عام 2022، وأعاد الحكم فتح واحد من أكثر الملفات إثارة للجدل في تاريخ البلاد السياسي المعاصر، ويضع البيرو أمام اختبار جديد بين الاستقرار المؤسسي وغضب الشارع.

الرئيس الذي جاء من الهامش

ارتبط صعود كاستيو إلى الرئاسة عام 2021 بلحظة تاريخية نادرة في البلاد، فهو أول رئيس يأتي من خلفية ريفية فقيرة، بدأ حياته معلما بسيطا ونقابيا محليا ثم تحول فجأة إلى الواجهة السياسية، لم يسبق له أن شغل أي منصب منتخب قبل دخوله القصر الرئاسي، ما جعله بنظر مؤيديه رمزا للأمل في تغيير موازين القوى الاجتماعية التي طالما ميزت الطبقات الحاكمة، بحسب فرانس برس.

غير أن هذا الصعود السريع جعل من ولايته واحدة من أكثر الفترات توترا، فخلال ستة عشر شهرا فقط، اصطدم كاستيو مرارا بالكونغرس الذي هيمنت عليه المعارضة اليمينية، ووجد نفسه محاصرا بسلسلة اتهامات بالفساد وسوء الإدارة، وبدلا من الدخول في مفاوضات سياسية واسعة، اتجه الرئيس السابق في بيرو إلى اتخاذ قرار صادم في ديسمبر 2022 حين أعلن حل الكونغرس ومحاولة تشكيل حكومة طوارئ.

لحظة انهيار سياسي

لم تمر ساعات على هذا القرار حتى انهار المشهد بالكامل في بيرو، فقد تحرك الكونغرس بسرعة وقرر عزله في اليوم نفسه، فيما انحاز عدد من وزرائه ضده ورفضوا تنفيذ أوامره، ومع تسارع الأحداث، حاول كاستيو التوجه إلى السفارة المكسيكية رفقة عائلته طلبا للجوء، لكنه أوقف قبل الوصول وأحيل إلى الاعتقال.

ووجهت إليه آنذاك ثلاث تهم هي التمرد وإساءة استخدام السلطة والإخلال بالنظام العام، وقد برأته المحكمة أخيرا من التهمتين الأخيرتين، لكنها ثبتت بحقه تهمة التمرد التي شكلت أساس الحكم الجديد بالسجن أحد عشر عاما وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما.

دوامة سقوط الرؤساء في البيرو

لم يكن كاستيو وحده في هذا المسار المتعثر للرئاسة في بيرو، فقبل يوم واحد فقط من الحكم عليه، صدر حكم آخر بسجن الرئيس الأسبق مارتن فيزكارا لمدة أربعة عشر عاما بتهم تتعلق بتلقي رشى أثناء عمله حاكما إقليميا، وبهذا ينضم فيزكارا إلى قائمة من الرؤساء السابقين الذين يقبعون اليوم خلف القضبان في سجن مخصص للمسؤولين السابقين في العاصمة.

هذا السجن يضم بالفعل أولانتا هومالا الذي حكم بين عامي 2011 و2016 وأليخاندرو توليدو الذي تولى السلطة بين 2001 و2006، إضافة إلى كاستيو نفسه الذي كان بانتظار المحاكمة فيه قبل صدور الحكم، وبهذه الصورة، تبدو بيرو وكأنها تعيش في دوامة سياسية لا تنتهي، تتبدل فيها الوجوه بينما تستمر الأزمات ويستعر الاستقطاب الشعبي.

غضب الشارع وجرح مفتوح

قرار عزل كاستيو قبل عامين لم يكن حدثا سياسيا فحسب، بل كان شرارة أشعلت احتجاجات واسعة بين الفقراء والفئات العاملة التي رأت فيه ممثلا لآمالها، خرجت مظاهرات حاشدة في أنحاء البلاد، وواجهت السلطات المتظاهرين بالقوة، ما تسبب في سقوط ما لا يقل عن 50 قتيلا وفق منظمات حقوقية، تحولت تلك الأحداث إلى واحدة من أسوأ موجات العنف السياسي التي شهدتها البيرو في العقد الأخير.

خليفته دينا بولوارتي، التي استلمت السلطة بدعم من الكونغرس، لم تكن أكثر حظا، فقد عاشت البلاد خلال ولايتها الممتدة على مدى اثنين وعشرين شهرا حالة مستمرة من التوتر، قبل أن يتم عزلها في أكتوبر الماضي وسط تراجع كبير في شعبيتها وانتقادات واسعة لطريقة إدارتها للأزمة.

رئيس فقير في مواجهة دولة مأزومة

سيرة كاستيو تلخص جانبا أساسيا من إشكالية السلطة في بيرو، فالرجل الذي وصل إلى كرسي الرئاسة بفضل وعوده بتحسين أوضاع الفقراء وجد نفسه عالقا بين متطلبات الحكم والواقع السياسي المعقد، حاول مواجهة الكونغرس، لكنه افتقر إلى الحلفاء والخبرة السياسية، كما واجه تراجعا في الدعم الشعبي مع الوقت بسبب الاتهامات المتلاحقة له ولأعضاء من حكومته.

ورغم أن محاولته حل الكونغرس فسرت على نطاق واسع باعتبارها انحرافا عن المسار الديمقراطي، فإن مناصريه يرون أنه كان ضحية لمنظومة سياسية تقليدية رفضت قبول صعود رئيس من خارج نخب العاصمة، لكن الحكم القضائي الأخير يؤكد أن المؤسسات البيروفية ماضية في فرض قراءتها القانونية للأحداث، حتى لو أثار ذلك المزيد من الانقسام.

تساؤلات حول المستقبل السياسي

الحكم على كاستيو، المتزامن مع سجن ثلاثة رؤساء آخرين، يعمق الشعور بأن النظام السياسي يعاني خللا جذريا في بنية السلطة والعلاقة بين الرئيس والكونغرس، كما يعكس صعوبة إدارة الحكم في بلد يعاني من استقطاب اجتماعي ومناطقي شديد، ومن اتهامات متكررة للطبقة السياسية بالفساد وغياب الثقة العامة.

ويرى محللون أن الأزمة الحالية ليست سوى عرض لمشكلة أعمق تتمثل في ضعف النظام الحزبي وتفتته، إضافة إلى اعتماد البلاد على دستور يضع سلطة كبيرة بيد الكونغرس، ما يؤدي إلى صدامات متكررة مع الرئاسة، في ظل هذا الوضع، يبدو أن البيرو بحاجة إلى مراجعة شاملة لقواعد اللعبة السياسية، إلى جانب تعزيز آليات الرقابة والشفافية.

عودة إلى القاعدة الشعبية

رغم وجود كاستيو خلف القضبان، فإن صورته لا تزال حاضرة في المناطق الريفية التي شكلت قاعدة دعمه الأساسية، هناك، يُنظر إليه باعتباره ضحية لنظام سياسي لا يمنح أبناء الطبقات الفقيرة فرصة حقيقية للقيادة، ومن المرجح أن يستمر الجدل حول الإرث السياسي لكاستيو، وأن يستمر اسمه في التأثير على المسار السياسي المقبل، سواء عبر حركة داعمة له أو عبر سجالات سياسية لا تهدأ.

شهدت بيرو خلال العقدين الأخيرين موجة مستمرة من الأزمات السياسية التي طالت أعلى هرم السلطة، حيث اضطر عدد من الرؤساء إلى الاستقالة أو واجهوا محاكمات بعد مغادرتهم المنصب، يعود ذلك إلى بنية سياسية معقدة تقوم على صراع دائم بين الرئاسة والكونغرس، إضافة إلى تفتت المشهد الحزبي، وسيطرة نخب اقتصادية على مراكز القرار، ومنذ عام 2016 تناوب على السلطة أكثر من ستة رؤساء نتيجة العزل أو الاستقالة أو التحقيقات القضائية، هذا المناخ السياسي المتقلب جعل البلاد عرضة لاحتجاجات متكررة وتوترات اجتماعية حادة، خصوصا في المناطق الريفية والأكثر فقرا التي تشكو من التهميش وضعف التنمية مقارنة بالمراكز الحضرية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية