عامٌ على رحيل بشار الأسد.. سوريا بين ذكريات الحرب وجهود تحقيق العدالة
عامٌ على رحيل بشار الأسد.. سوريا بين ذكريات الحرب وجهود تحقيق العدالة
ترصد الذكرى السنوية الأولى لرحيل بشار الأسد من الحكم في سوريا محطة مفصلية في تاريخ بلدٍ أنهكته الحرب والاستبداد على مدار أكثر من عقد، وفق تقييمات خبراء في العدالة الانتقالية تابعين لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان.
وتوثق هذه الذكرى ليس فقط نهاية حقبة سياسية دامية، بل بداية مرحلة شديدة التعقيد في مواجهة إرث ثقيل من الانتهاكات الجسيمة التي طالت ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها، كما ورد في تقارير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وتكشف تقارير منظمات حقوقية دولية، من بينها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش والشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن السنوات التي سبقت رحيل الأسد شهدت واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
وخلال فترة حكم الأسد، قُتل أكثر من 500 ألف شخص، فيما تعرض مئات الآلاف للتعذيب والاختفاء القسري، واضطر أكثر من 13 مليون سوري لترك منازلهم بين نازح ولاجئ، بحسب تقديرات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR).
وتحولت مدن مثل حلب، وحمص، والغوطة الشرقية، ودرعا، إلى نماذج صارخة للدمار المنهجي والقصف العشوائي والحصار والتجويع، كما وثقته بعثات تقصي الحقائق الأممية.
آلاف الإعدامات الميدانية
وثّقت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التابعة لمجلس حقوق الإنسان، آلاف الحالات من الإعدامات الميدانية، والتعذيب حتى الموت داخل مراكز الاحتجاز، والاختفاء القسري، واستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، ولا سيما في الغوطة الشرقية وخان شيخون ودوما، وهي وقائع دعمتها تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW).
وأكدت هذه الجهات أن ما جرى في سوريا لا يُصنَّف باعتباره "انتهاكات فردية"، بل يدخل في إطار سياسة ممنهجة ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي.
ويعيش اليوم ملايين السوريين وسط انهيار شبه كامل للبنى التحتية، حيث لم تتعافَ شبكات المياه والكهرباء والمستشفيات والمدارس إلا جزئيًا، وفق تقييمات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
ويعاني الأطفال، الذين وُلد معظمهم خلال سنوات الصراع، من اضطرابات نفسية حادة، وحرمان من التعليم، وغياب بيئة آمنة للنمو.
وتؤكد منظمة اليونيسف أن جيلاً كاملاً من الأطفال السوريين بات معرضًا لخطر الضياع، ما لم تُطلق برامج دعم نفسي وتعليمي عاجلة وطويلة الأمد.
العدالة الانتقالية والمساءلة
تسلط الذكرى الضوء على التعقيدات التي تواجه مسار العدالة الانتقالية والمساءلة، حيث لا تزال عملية محاسبة كبار المسؤولين عن الجرائم تواجه عراقيل سياسية وقانونية.
ومع ذلك، شكّلت محاكمات جرت في ألمانيا وفرنسا والسويد بحق مسؤولين أمنيين سابقين سابقة قضائية مهمة في إطار مبدأ "الولاية القضائية العالمية"، بحسب ما وثقته منظمات قانونية مثل المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، في رسالة واضحة مفادها أن الجرائم الجسيمة لا تسقط بالتقادم.
ويطالب ضحايا التعذيب وعائلات المختفين قسرًا، بدعم من منظمات مثل رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا والشبكة السورية لحقوق الإنسان، بفتح شامل لملفات المعتقلين، والكشف عن المقابر الجماعية، وتسليم الأرشيفات الأمنية التي تحتوي على معلومات مصيرية عن عشرات الآلاف من المفقودين.
ويؤكد الحقوقيون أن العدالة في السياق السوري ليست دعوة للانتقام، بل شرطًا أساسيًا لتحقيق مصالحة وطنية شاملة ومنع تكرار الانتهاكات.
إعادة بناء النسيج الاجتماعي
في موازاة ذلك، تواجه المجتمعات السورية تحديًا لا يقل أهمية يتمثل في إعادة بناء النسيج الاجتماعي وترميم الثقة بين مكونات المجتمع، بعد سنوات من الاستقطاب والخوف والعنف.
وتعمل منظمات مجتمع مدني محلية، بدعم من جهات دولية مثل الصليب الأحمر الدولي والمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، على توثيق الذاكرة الجماعية وتنفيذ مبادرات للحوار والمصالحة، في محاولة لمنع طمس الحقيقة أو تزييفها.
وتتجدد في هذه الذكرى دعوات الحقوقيين والمنظمات الإنسانية لأن يضع المجتمع الدولي معاناة الشعب السوري في صدارة أولوياته، بعيدًا عن الحسابات الجيوسياسية الضيقة.
وتؤكد تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن أي حل مستدام يجب أن يقوم على ضمان عودة آمنة وطوعية للاجئين، وإقامة نظام يحترم حقوق الإنسان، ويضمن الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية.
فرصة ثانية للحياة
تُختزل ذكرى رحيل بشار الأسد، بالنسبة لكثير من السوريين، في معنى واحد: فرصة ثانية للحياة، لكن هذه الفرصة تظل هشة، ما لم تُدعَّم بإرادة دولية حقيقية، وإصلاحات داخلية عميقة، ونظام سياسي جديد يقوم على العدالة والمساءلة والمساواة.
ففي بلدٍ عاش أكثر من نصف قرن تحت القمع، لا يمكن أن تُبنى الحرية إلا على مكاشفة شاملة للحقيقة، ولا أن يولد السلام إلا من قلب العدالة.











