عامٌ على رحيل الأسد.. سوريا بين كارثة إنسانية مستمرة وأمل مؤجل
عامٌ على رحيل الأسد.. سوريا بين كارثة إنسانية مستمرة وأمل مؤجل
شكّل تاريخ 8 ديسمبر 2024 منعطفاً حاداً في التاريخ السوري المعاصر، عندما انهار النظام الذي حكم البلاد أكثر من خمسة عقود باسم عائلة الأسد، بعد سنوات من الحرب والعقوبات والشلل السياسي.
تبدّل المشهد بسرعة غير متوقعة، ليس نتيجة انتفاضة شعبية خالصة أو تسوية سياسية ناضجة، بل نتيجة إعادة ترتيب موازين القوى إقليمياً ودولياً، ما فتح الطريق أمام المعارضة لتصبح لاعباً مسيطراً على الأرض بدعم غير معلن من قوى عدة، كما تشير قراءات متعددة لمراكز أبحاث إقليمية وتقارير نشرتها وسائل إعلام دولية بينها وكالة "رويترز".
تفاءل كثير من السوريين بسقوط النظام، واعتبروا اللحظة بداية خلاص من عقود القمع والاستبداد، لكن سرعان ما اصطدم هذا الأمل بواقع جديد لم يكن أقل قسوة.
وتحوّلت الاحتفالات في بعض المناطق إلى ممارسة مفروضة من السلطات الانتقالية، بينما عاشت مناطق أخرى في خوف وترقّب من مرحلة غامضة المعالم، تتّسم بانتشار السلاح وغياب المؤسسات الشرعية الجامعة.
موجة عنف مجتمعي
تعرضت خلال العام الماضي مكوّنات كاملة للوصم الجماعي، حيث صُنّف العلويون كـ"فلول"، والدروز كـ"عملاء"، والكرد كـ"انفصاليين"، فيما وُصمت التيارات المدنية والعلمانية والنسوية بالكفر والانحلال، ما أسّس لموجة عنف مجتمعي أعادت إنتاج الانقسام الطائفي والمناطقي الذي حذرت منه تقارير الأمم المتحدة منذ بدايات النزاع عام 2011.
وأكّدت تجارب سكان إدلب –التي خضعت لسيطرة المعارضة منذ عام 2017– خطورة هذا المسار، إذ وثّق ناشطون ومنظمات محلية تضييقاً واسعاً على حرية التعبير، وممارسات ترهيب، واعتقالات تعسفية، وفساداً في الإدارة.
وأشار سكان محليون إلى أن شخصيات تورّطت سابقاً في انتهاكات جسيمة، مثل حادثة إعدام امرأتين في معرة مصرين عام 2015، لم تُحاسَب، بل جرى ترقية بعضها إلى مناصب عليا في "النظام الجديد".
وكشف المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقريره الذي يغطي الفترة بين 8 ديسمبر 2024 و5 ديسمبر 2025 عن مقتل ما لا يقل عن 8835 مدنياً، بينهم 512 طفلاً و676 امرأة، في مؤشر صادم على حجم الكارثة الإنسانية المستمرة.
تنوع الانتهاكات خلال عام
تنوّعت أنماط الانتهاكات بين القتل خارج نطاق القانون، والإعدامات الميدانية، والاختفاء القسري، والتعذيب في السجون، والاختطاف الذي طال نساء من المكوّنَين العلوي والدرزي.
وأفادت وكالة رويترز في تقرير نُشر في يونيو 2025 باختطاف ما لا يقل عن 33 امرأة علوية من محافظات الساحل وحماة وحمص، ونقل بعضهن إلى إدلب، مع توثيق حالات عنف جنسي واغتصاب.
وسجّلت أيضاً حوادث اختطاف واسعة لنساء من الطائفة الدرزية في السويداء، حيث اختفت 105 نساء ولا يزال مصير نحو 80 منهن مجهولاً، وسط إفادات عن تعذيب واعتداء جنسي وإعدامات لاحقة لبعض الضحايا، بحسب مصادر محلية وتقارير صادرة عن منظمات نسوية سورية في الشتات.
عنف طال الرموز الدينية
لم يقتصر العنف على الأفراد، بل طال الرموز الدينية والثقافية، نفّذت مجموعات مسلحة هجمات على كنائس ومزارات ومساجد تعود لمختلف الطوائف.
ووثّقت تقارير إعلامية محلية ودولية هجوماً دامياً على كنيسة مار إلياس في دمشق أودى بحياة 25 مدنياً وأصاب العشرات، في مؤشر خطير على محاولة محو التنوّع الديني الذي طالما ميّز المجتمع السوري.
وأدّت أعمال نهب وتخريب واسعة إلى تدمير مواقع دينية تاريخية، خصوصاً في مناطق الساحل والسويداء وريف حلب، ما عمّق الشعور لدى الأقليات الدينية بأن وجودها مهدد ثقافياً وإنسانياً، وليس فقط أمنياً.
استمرار الإفلات من العقاب
فشلت كل محاولات تشكيل لجان تحقيق مستقلة وفعّالة بسبب تبعيتها المباشرة للسلطة الجديدة، ما جعلها تفقد المصداقية محلياً ودولياً.
وبحسب إفادات حقوقيين سوريين، فإن السجون في إدلب ومناطق سيطرة الفصائل، بما فيها سجون تديرها فصائل مدعومة من تركيا، لا تزال تكتظ بمعتقلين لم يمثلوا أمام أي محكمة.
ورغم حملات إعلامية واسعة للترويج لما سُمي بـ"إغلاق سجن صيدنايا للأبد"، تؤكد منظمات حقوقية أن شبكة الاعتقال لم تُفكك، بل أعيد إنتاجها بأسماء جديدة وتحت سلطات مختلفة، دون أي التزام بمعايير العدالة الانتقالية أو جبر الضرر.
المرأة في العصر الجديد
لم تكن المرأة مجرّد ضحية سلبية في هذا المشهد القاتم، قاومت السوريات بقوة محاولات تهميشهن، وخرجن في تظاهرات بالعاصمة دمشق في 19 ديسمبر 2024 ورفعن شعارات تطالب بدولة مدنية ومشاركة سياسية كاملة للنساء، ومنها: "لا وطن حر دون نساء حرائر".
غير أنّ الخطاب الرسمي للسلطة الجديدة، ممثلاً بتصريحات شخصيات مثل عبيدة أرناؤط وعائشة الدبس، جاء ليعيد المرأة إلى موقع التبعية، في تعارض واضح مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW).
وفي مشاهد رمزية مؤثرة، واجهت نساء مثل زرقة سباهية في ريف اللاذقية وفوزية الشعراني في السويداء العنف بالسلاح أو بالموقف، في رسائل تختصر شجاعة المرأة السورية في وجه التطرف والقمع.
تمر سوريا اليوم بواحدة من أحلك مراحلها، مرحلة لم تعد فيها المشكلة مرتبطة بنظام سقط، بل بمنظومة عنف جديدة تعيد إنتاج القمع تحت شعارات مختلفة، وبين أنقاض المدن، وصور المفقودين، وصمت المقابر الجماعية، يبقى الأمل معلقاً بإرادة الشعب، وبقدرة النساء والرجال على كسر دائرة الخوف وبناء مستقبل يقوم على العدالة، وليس الانتقام.











