وسط قيود مجتمعية.. قلق حقوقي إثر تزايد العنف الأسري ضد المرأة في الجزائر
وسط قيود مجتمعية.. قلق حقوقي إثر تزايد العنف الأسري ضد المرأة في الجزائر
يعاني العديد من النساء في الجزائر من منظومة معقّدة من العنف تُمارَس عليهنّ داخل البيت وخارجه، وتتقاطع فيها الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، في ظل ثقافة مجتمعية لا تزال تُشرعن الهيمنة الذكورية وتدفع كثيرات إلى الصمت خوفاً من الوصم أو الانتقام أو تفكك الأسرة.
ورغم وجود نصوص قانونية تُجرّم بعض أشكال العنف، فإن ضعف التطبيق الرقابي، وبطء الإجراءات، وتردّد الضحايا في الإبلاغ، يجعل الحماية الموعودة حبيسة الورق، بحسب ما ذكرت وكالة أنباء المرأة، الاثنين.
ووفقًا لبيانات منصة "فمنيسيد الجزائر" المتخصصة برصد جرائم قتل النساء، تم تسجيل 37 جريمة قتل بحق نساء خلال العام الجاري 2025.. هذه الجرائم لم تكن حوادث عشوائية، بل جاءت غالبًا بعد تاريخ طويل من الإيذاء الجسدي والنفسي والاقتصادي، ووقعت في أماكن مغلقة، أبرزها المنزل.
وتشير البيانات إلى أن معظم الجناة كانوا شركاءً حاليين أو سابقين للضحايا، أو أفرادًا من الأسرة، وهو ما يضع هذه الجرائم ضمن ما يُعرف بـ"العنف الأسري والقرابة"، حيث يفترض أن تكون الحماية والطمأنينة، فإذا بها تتحول إلى مكان تهديد خطر.
هذا المعطى وحده يكشف مفارقة قاسية: المنزل الذي يُفترض أن يكون الملاذ الآمن للمرأة، بات أكثر الأماكن تهديداً لحياتها، وهو ما يفرض تساؤلات جوهرية حول فاعلية الردع القانوني، ودور المجتمع، والتكوين الثقافي الذي ما زال يرسّخ امتلاك الرجل لجسد وحياة المرأة.
معاناة تتكرر بأسماء مختلفة
من بين الشهادات المؤلمة التي تعكس عمق الأزمة، قصة جميلة بلحاج (اسم مستعار)، وهي شابة جزائرية في الثلاثينات من عمرها كانت تتعرض لتعنيف مستمر من زوجها الذي كان يجبرها على التسول لجني المال، ويعتدي عليها بالضرب المبرح بشكل متكرر.
وبلغت الاعتداءات حدّ إصابتها بجراح غائرة في يدها اليسرى كادت تؤدي إلى إعاقة دائمة، واضطرت إلى دخول العناية المركزة. لم تجد جميلة مخرجاً سوى الفرار مع ابنتها، في محاولة أخيرة للنجاة من دائرة الإذلال والعنف الجسدي والنفسي.
وفي مدينة سطيف شمال شرق البلاد، وقعت جريمة مروّعة حين أقدم رجل على قتل طليقته بعد توجيه طعنات قاتلة لها أمام المحكمة، مباشرة بعد جلسة رفعتها المرأة ضده بسبب عدم تسديد النفقة.
وتكشف هذه الواقعة خطورة انتقال العنف من البيت إلى الفضاء العام، وكيف يمكن للغضب الذكوري أن يتخطى كل خطوط القانون والقضاء.
أما في غليزان، فقد اهتز حي الانتصار على وقع جريمة بشعة راح ضحيتها أم لطفلتين، بعدما أقدم طليقها على قتلها أمام منزلها العائلي بطعنات متفرقة. حادثة أخرى تُكرّس واقعاً مؤلماً: الانفصال لا يعني نهاية الخطر بالنسبة للمرأة، بل قد يكون بداية لمرحلة أكثر دموية.
العنف النفسي والاقتصادي
أوضحت الاختصاصية النفسية والاستشارية التربوية والأسرية ليندة غليمي، أن الكثير من النساء يُفضّلن الهروب إلى الشارع بدل البقاء تحت سقف يشهد العنف اليومي، مؤكدة أن "المنزل أصبح ينال حصة الأسد من الأماكن التي تشهد العنف ضد النساء".
وبينت أن الاستغلال المادي يُعد من أكثر أشكال العنف انتشارًا، حيث تُحرَم نساء من رواتبهن ويُجبرن على تسليم مداخيلهن تحت ضغط العادات التي تكرّس تسلّط الرجل.
وأشارت غليمي كذلك إلى مفارقة اقتصادية مهمة، ارتفاع معدلات البطالة بين الرجال مقارنة بالنساء خلق اختلالاً في توازن السلطة داخل الأسرة، حيث باتت المرأة في كثير من الأحيان هي المُعيل الأساسي، لكن هذه القوة الاقتصادية لا تُمنح لها بوصفها وسيلة تحرر، بل تتحول أحيانًا إلى سبب إضافي للعنف والعقاب.
الصمت درع هش
من جهتها، ترى الناشطة والأخصائية النفسية نهلة فرطاس، أن العنف ضد المرأة في الجزائر هو نتاج منظومة اجتماعية أبوية متجذّرة، رسّخت عبر الأجيال فكرة خضوع المرأة وطاعتها المطلقة.
وبحسب فرطاس، تحوّلت العلاقات الزوجية من شراكة إنسانية متكافئة إلى صراع للسيطرة، تقف فيه المرأة غالبًا في موقع الضعف بحكم التربية والقيم الاجتماعية.
وتؤكد فرطاس أن صمت النساء هو أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم العنف، إذ إن الخوف من الفضيحة، وضغط العائلة، والرغبة في "الحفاظ على صورة الأسرة المستقرة"، كلها عوامل تُبقي المرأة داخل دائرة الخطر، ومع الوقت، يتحول السكوت إلى إذن غير مباشر باستمرار العنف، ويُترجم عمليًا إلى تطبيع الجريمة داخل المجتمع.
ثغرات قانونية وغياب الردع
رغم أن القانون الجزائري تضمّن تعديلات تهدف إلى تجريم بعض أشكال العنف الأسري، فإن الطريق بين النص والتنفيذ لا يزال طويلاً، فالعديد من النساء لا يملك الوعي القانوني الكافي لتقديم شكاوى، ويواجهن ضغط الأسرة للتراجع عن البلاغات.
كما أن الكثير منهن يُصدم بطول الإجراءات وبطء التقاضي، ولا يحصلن على حماية فعلية بعد التبليغ، مثل أوامر الإبعاد أو الملاجئ الآمنة، وهو ما يجعل كثيرات يعتبرن الصمت خيارًا أقل خطورة من المواجهة.
إن ما تعيشه النساء في الجزائر لا يمكن اختزاله في أرقام أو حوادث منفردة، بل هو وباء اجتماعي صامت يتغذى من الثقافة، والتواطؤ، وضعف الردع.
ومع تسجيل عشرات جرائم القتل سنويًا، تصبح القضية أزمة حقوق إنسان مكتملة الأركان تتطلب تطبيقًا صارمًا وفوريًا لقوانين حماية النساء، وإنشاء مراكز إيواء آمنة للضحايا، وبرامج توعية وطنية ضد العنف الأسري، وتدريب الشرطة والقضاء على التعامل مع هذا النوع من القضايا، وكسر حاجز الصمت المجتمعي وتغيير الخطاب الثقافي











