غياب القوة الناعمة.. كلينتون تربط السياسة الأمريكية بانكماش حقوقي يمس حقوق النساء
في حديثها لمجلة "فورين بوليسي"
طرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون منظوراً حقوقياً صريحاً حول السياسة الأمريكية الراهنة في حوارها مع مجلة “فورين بوليسي” على هامش منتدى الدوحة بقطر، متناولةً التأثيرات الحقوقية والسياسية العميقة لتوجهات إدارة ترامب على الصعيدين الداخلي والدولي، لتكشف عن رؤية نقدية حول طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية، وأهمية الحفاظ على الحقوق الأساسية والحريات، ودورها في تشكيل النظام الدولي على أساس سيادة القانون واحترام كرامة الإنسان.
بدأت كلينتون بتقييمها وثيقة الأمن القومي الجديدة الصادرة عن إدارة ترامب عبر التركيز على البعد الحقوقي الغائب، مؤكدةً أن الاستراتيجية تُظهر انحرافاً حاداً عن التحالفات التقليدية التي شكّلت ركيزة أساسية لمكانة الولايات المتحدة ودورها في حماية القيم والحقوق عالمياً.
وأكدت كلينتون أن الاتهامات الواردة في الوثيقة تُحمِّل أوروبا مسؤولية مشكلات ديموغرافية وسياسية، في حين تتجاهل عمداً دورها التاريخي في تكريس نظام دولي قائم على التعاون واحترام حقوق الإنسان، مشيرة إلى أن هذه المقاربة تُحدث انقساماً، لا مسوغ له، بين الولايات المتحدة ودول تشترك معها في القيم والمصالح، وتُعد عنصراً أساسياً في أمنها القومي.
الابتعاد عن الحلفاء
تتابع كلينتون نقدها من خلال شرح أن هذا الابتعاد عن الحلفاء لا يقتصر على الجانب السياسي، بل يمتد إلى السياسات العسكرية التي تتبناها الإدارة، والتي تُعزز الحضور العسكري الأمريكي دون مرافقة دبلوماسية حقيقية أو التزام بسياقات حقوق الإنسان التي تُشكّل حجر الأساس لأي تدخل دولي مسؤول.
وحذرت من أن هذه القوة غير المقترنة باستراتيجية واضحة قد تفتح الباب لانتهاكات أو قرارات تُفاقم الأزمات بدلاً من معالجتها، مشيرةً إلى أن تحديث مبدأ مونرو على النحو الذي تلمّح إليه الوثيقة يُعد خطوة غير واقعية، ويمكن أن يقود إلى توترات إقليمية تُهدد حقوق الشعوب.
وتستكمل كلينتون رؤيتها الحقوقية من خلال تناول أثر الولاية الثانية للرئيس ترامب، مؤكدةً أن القلق ينطلق من التراجع المستمر عن القيم الأمريكية الأساسية، والتي مثّلت على مدار عقود قاعدة الالتزام بالحقوق والحريات في السياسات الدولية.
كما أشارت إلى أن الولايات المتحدة لم تُمارس ضغطاً كافياً على روسيا، ولم تُظهر مواقف حقوقية حاسمة تجاه الانتهاكات التي تعرض لها الشعب الأوكراني، وأن عدم وضوح الأهداف الأمريكية وتذبذب السياسات قد سمح بتفاقم العنف، وبإمكانية فرض تسويات تُعرّض الأوكرانيين لمزيد من التدخل.
تُضيف كلينتون أن خطة السلام الخاصة بغزة، والمكونة من 20 نقطة، تُعد خطوة مهمة على الورق، لكنها تتطلب جهداً دبلوماسياً كبيراً، وتستدعي أدوات تفاوض تُوازن بين الترهيب والترغيب لضمان مشاركة جميع الأطراف، مؤكدةً أن إنهاء الحرب يتطلب رؤية حقوقية واضحة، تقوم على حماية المدنيين، وضمان مستقبل يحفظ كرامة الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء.
ملف الصين
أعادت كلينتون طرح ملف الصين بوصفه أحد أعقد الملفات الحقوقية والسياسية، مؤكدةً أن غياب القوة الناعمة الأمريكية يفسح المجال لتوسع نفوذ صيني لا يأخذ حقوق الإنسان في الاعتبار، حيث واصلت تحليلها عبر تأكيد أن المنافسة مع الصين تتطلب عملاً دبلوماسياً بعيد المدى، وأن إدارة ترامب تُظهر نفوراً من العمل الدبلوماسي الاحترافي، وتعتمد على دائرة صغيرة حول الرئيس، وهو أمرٌ غير كافٍ لتعقيد التحديات الراهنة، مؤكدة خبرتها في أيرلندا الشمالية والبلقان لتُبيّن أن الاتفاقيات التي حفظت السلام احتاجت سنوات طويلة من العمل الشاق، وأن اختصار هذا الجهد أو تجاوزه يفتح الباب لانتكاسات خطرة.
وأبرزت كلينتون أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية في عدم تطوير أدوات القوة الناعمة، ما سمح للصين بملء الفراغ، خصوصاً في إفريقيا، حيث يُصبح غياب التضامن الحقوقي الأمريكي واضحاً في مقابل نفوذ اقتصادي لا يراعي حقوق المجتمعات المحلية.
انتقلت كلينتون إلى الجدل الذي أثارته تصريحاتها حول تغيّر آراء الشباب الأمريكيين تجاه إسرائيل، مؤكدةً أن غالبية الشباب يحصلون على معلوماتهم من منصات التواصل الاجتماعي، وأن ما تطلبه هو الحضور التاريخي والسياق، حتى لا تتحول ردود الفعل إلى مواقف بلا وعي، تُوضح أنها لا تشكك في مصداقية المحتوى، لكنها تُشير إلى أن انعدام الوعي بالسياق يُضعف القدرة على اتخاذ مواقف حقوقية مبنية على المعرفة، سواء تجاه الفلسطينيين أو الإسرائيليين.
وقالت كلينتون إنها غاضبة من انتهاكات حقوق الإنسان أينما كانت: في غزة، وفي إسرائيل، وفي أوكرانيا، وفي السودان، وفي شرق الكونغو، وتُؤكد أن التركيز على صراع واحد وترك بقية الانتهاكات لا يخدم الحقوق ولا يحقق العدالة، وشددت على ضرورة أن تلعب الولايات المتحدة دوراً في حل النزاعات وحماية الديمقراطية والحرية، محذّرة من أن التخلي عن هذا الدور يمثل تخلّياً عن القيادة الأخلاقية.
وأضافت أن الانحراف عن القواعد الدولية يفتح الباب للقادة المستبدين، مؤكدةً أن العالم بحاجة إلى سيادة القانون، وأن الولايات المتحدة يجب أن تُبقي على التزامها بالقانون الدولي ولو بدرجات متفاوتة، لأن البديل هو عالم تسيطر عليه القوى التي لا تُقيم وزناً للحقوق.
انسحاب الكونغرس من دوره
حمّلت كلينتون الكونغرس مسؤولية الانسحاب من دوره الرقابي، وربطت ذلك بتراجع التوازن بين السلطات وباتساع الانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان، قائلة إن الكونغرس "تخلى عن مسؤوليته"، مؤكدةً أن النظام الدستوري الأمريكي بُني على مبدأ الفصل بين السلطات لتجنب التعسف في استخدام القوة التنفيذية.
وأشارت إلى أن الحزب الجمهوري يرفض محاسبة الإدارة، وأن هذا الفشل لا ينسجم مع الدستور ولا يخدم الحكمة السياسية. وتُعيد التذكير بأن حتى أخطر القرارات الأمنية، مثل ملاحقة أسامة بن لادن، خضعت لمراجعة الكونغرس، وأن غياب هذا الدور اليوم يُعد تراجعاً خطِراً.
وانتقلت كلينتون إلى تقييم أداء الديمقراطيين، مؤكدةً أنهم أصبحوا أكثر فاعلية في معارضة الرئيس بعد الإغلاق الحكومي، خصوصاً في ملف الرعاية الصحية القابلة للتحمل، وأشارت إلى أن قدرتهم على طرح قضايا ملموسة للناس جعلتهم أكثر حضوراً في الانتخابات الأخيرة، رغم التحديات التي واجهوها في بداية الولاية.
وقارنت كلينتون بين الجمهوريين اليوم والجمهوريين الذين عرفتهم خلال عملها في مجلس الشيوخ، مؤكدةً أن الحزب بات أقل استعداداً لمساءلة الرئيس، وأن الخوف من ترامب أو الاتفاق معه يُعطّل دوره الديمقراطي.
وحلّلت كلينتون أسباب خسارة الديمقراطيين، مؤكدةً أن إدارة بايدن لم تُدر ملف القدرة على تحمل التكاليف بصورة فعالة في البداية، وأن فشلها في ترجمة المؤشرات الاقتصادية إلى واقع محسوس دفع الناس للالتفاف ضدها، مشيرة إلى أن وعود ترامب الاقتصادية لم تتحقق، ما أدى إلى تراجع شعبيته.
ملف حقوق المرأة
تُعيد كلينتون فتح ملف حقوق المرأة بوصفه أحد أهم محاور نضالها السياسي، وتُبرز التقدم الذي تحقق خلال 30 عاماً، والانهيارات التي أعادت جائحة كوفيد تأجيجها.
واستعرضت وزيرة الخارجية السابقة التحول التاريخي الذي حدث عندما اتفقت 189 دولة على منهاج عمل حقوق المرأة، مؤكدةً أن العالم شهد تغييرات كبيرة: تحوّل العنف المنزلي إلى جريمة، وتراجع زواج الأطفال، وتوسعت فرص النساء في العمل والتعليم والصحة، مشيرة إلى أن الجائحة تسببت في انتكاسات عميقة، أعادت العنف المنزلي وزواج الأطفال إلى مستويات مقلقة، وأغلقت أبواباً كثيرة أمام النساء حتى في الاقتصادات المتقدمة.
وحذّرت كلينتون من أن العودة إلى الوراء أصبحت تهديداً عالمياً، مشيرةً إلى ممارسات طالبان في أفغانستان، وإلى التضييق على النساء في إيران، وإلى توجهات حكومات المجر وروسيا وتركيا التي ترفض القوانين الداعمة للمرأة، وأضافت أن خطاب الرئيس الصيني حول إعادة النساء إلى المنازل يُعبّر عن رؤية تُقيد إمكانات المرأة وتُعيدها إلى موقع غير متكافئ.
وأشارت أيضاً إلى أن قرارات الدول لها عواقب بعيدة المدى، مستشهدةً بسياسة الطفل الواحد في الصين، وما نتج عنها من فائض 30 مليون رجل، بسبب تفضيل الذكور على حساب حياة الفتيات.
رسمت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون في حديثها مع فورين بوليسي خريطة واضحة للعالم من زاوية حقوقية بحتة: عالم تتراجع فيه القيم، وتتصاعد فيه الانتهاكات، ويغيب عنه الدور الأمريكي الذي طالما شكّل رافعة لحماية حقوق الإنسان.
وكشفت أن التحديات ليست سياسية فقط، بل أخلاقية بالدرجة الأولى، وأن الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة، وسيادة القانون، والتوازن بين السلطات، ليس خياراً ثانوياً، بل ضرورة لبقاء النظام الدولي، مشيرة إلى أن فقدان هذا الدور يفتح الباب لهيمنة القوى التي لا تؤمن بالحقوق، ولا تُعطي قيمة لكرامة الإنسان.











