دموعٌ في المكاتب البريطانية.. ثقافة العمل التقليدية تتصادم مع توقعات خريجي الجامعات

دموعٌ في المكاتب البريطانية.. ثقافة العمل التقليدية تتصادم مع توقعات خريجي الجامعات
الضغوط النفسية التي يواجهها الموظفون الشباب

كشفت دراسة حديثة في بريطانيا عن صورة مقلقة للضغوط النفسية التي يواجهها الموظفون الشباب في سنواتهم الأولى من العمل المؤسسي، حيث أظهرت النتائج أن نحو نصف الموظفين الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و25 عاما وصلوا إلى البكاء بسبب ضغوط العمل، بينما فكر 39 بالمئة منهم بجدية في الاستقالة خلال العام الأول من دخولهم الحياة المهنية.

الدراسة، التي تعد الأكبر من نوعها لعام 2025، أجرتها شركة ون بول بتكليف من منصة كاهوت، وشملت 2000 موظف حديث التخرج من الجامعات البريطانية، وفق ما ذكرته صحيفة "ستاندرد" الثلاثاء.

توتر بين الأجيال في بيئة العمل

تسلط الدراسة الضوء على توترات واضحة في بريطانيا بين الأجيال داخل بيئات العمل، حيث قال 44 بالمئة من الموظفين الشباب إنهم تعرضوا لانتقادات من زملاء أكبر سنا بسبب صور نمطية تتعلق بأعمارهم، ويرى الشباب أن هذه الانتقادات غالبا ما تستند إلى أحكام مسبقة لا علاقة لها بقدراتهم المهنية، وشملت هذه الانتقادات اتهام الشباب بأنهم شغوفون بشكل مفرط أو صريحون أكثر مما ينبغي بنسبة 47 بالمئة، أو استخدامهم لغة غير رسمية أو الدعابة في محيط العمل بنسبة 46 بالمئة، إضافة إلى ملاحظات حول وضعهم حدوداً صحية في العمل بنسبة 44 بالمئة، أو تعليقات تخص مظهرهم وملابسهم بنسبة 42 بالمئة.

جيل رقمي يشعر بعدم التقدير

ورغم أن الجيل الجديد يعد أول جيل رقمي بالكامل يدخل سوق العمل، فإن الكثير منهم شعروا بأن أصواتهم لا تحظى بالاهتمام الكافي، وقال 24 بالمئة من المشاركين إن آرائهم لم تؤخذ على محمل الجد أو لم يكونوا واثقين من أهميتها داخل بيئتهم المهنية، وأكّد 40 بالمئة أن إتاحة فرص للتعبير عن الرأي من شأنه تعزيز شعورهم بالانتماء، بينما أعرب 38 بالمئة عن رغبتهم في المشاركة بشكل أكبر في اتخاذ القرارات داخل مؤسساتهم.

غياب الاعتراف والدعم في مكان العمل

أظهرت الدراسة أيضا نقصا لافتا في التقدير، إذ قال 30 بالمئة من الموظفين الشباب إنهم لم يتلقوا أي إشادة أو اعتراف بجهودهم خلال الأسبوع السابق على إجراء الاستطلاع، وشدد المشاركون على أن الدعم من الزملاء والاعتراف بالمساهمات اليومية يعدان من أهم العوامل التي تجعلهم يشعرون بالتقدير في العمل، خصوصا في بيئات مهنية سريعة الإيقاع لا تمنح غالبا مساحة كافية للتوجيه الإيجابي.

من بين النتائج اللافتة ظهور ما يسمى بالتوجيه العكسي، حيث قال 57 بالمئة من الموظفين الشباب إنهم علموا مديريهم كيفية أداء مهمة رقمية بسيطة، ويعكس هذا التحول الفجوة التقنية بين الأجيال، كما يعكس قدرة الجيل الجديد على المساهمة في تحديث أساليب العمل، في الوقت الذي لا تزال فيه العديد من المؤسسات داخل بريطانيا متمسكة بنماذج تنظيمية قديمة تعيق الاستفادة من مهارات هؤلاء الشباب.

الإرهاق المبكر وتحذيرات مقلقة

تشير الدراسة إلى مستويات مرتفعة من الإرهاق، حيث قال 68 بالمئة من المشاركين إنهم شعروا بالإجهاد أو بأنهم يعملون فوق طاقتهم، بينما قال 9 بالمئة إن هذا الشعور يلازمهم دائما، وتثير هذه النتائج قلقا متزايدا بشأن الصحة النفسية للجيل الجديد الذي يدخل سوق العمل وسط منافسة مرتفعة وتوقعات كبيرة، في وقت تتغير فيه معايير النجاح الوظيفي وتزداد فيه الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.

صراع ثقافات داخل المؤسسات

يبرز التقرير حالة من التصادم بين ثقافة عمل تقليدية اعتادتها الأجيال الأكبر سنا، وتوقعات جديدة يحملها الجيل القادم من الشباب الذين يبحثون عن التوازن والتقدير وفرص التعبير والمشاركة، ويقول الخبراء إن هذه التوترات لا تنبع فقط من اختلاف القيم، بل أيضا من اختلاف النظرة إلى مفهوم النجاح والوقت والعمل الجماعي والمعايير المهنية، وهي اختلافات تحتاج المؤسسات إلى إدارتها بذكاء لضمان بيئة عمل منتجة وصحية.

رسالة واضحة للقادة

علّق جون نيل، مدير النمو في بريطانيا وأيرلندا لدى منصة كاهوت، قائلا إن نتائج الدراسة يجب أن تكون بمثابة إنذار للمؤسسات وقادتها. ويرى نيل أن الاقتصاد المعاصر يتطلب جيلا شابا متمكنا، قادرا على الابتكار، ومحصنا نفسيا، لكن هذا لن يتحقق إلا إذا وفرت المؤسسات بيئة عمل تستوعب احتياجات هذا الجيل وتستثمر نقاط قوته بدلا من محاولة تشكيله وفق نماذج تقليدية، وشدد على أن تجاهل هذه التحديات سيكلف الشركات الكثير، سواء في القدرة على الاحتفاظ بالموظفين أو في مستوى الابتكار والثقافة المؤسسية والتنافسية العامة.

جيل يبحث عن معنى في العمل

لا يرى الشباب العمل مجرد مصدر للدخل، بل مساحة لصناعة المستقبل الشخصي والمهني، ولذلك فإن غياب التوجيه، ونقص الاعتراف، والانتقادات القائمة على الأحكام المسبقة، تجعل الكثير منهم يشعرون بالانفصال عن بيئة العمل، ويدفع بعضهم للتفكير في ترك وظائفهم مبكرا، كما أظهرت الدراسة، وتشير الاتجاهات العالمية إلى أن الشركات التي تفشل في تحديث ثقافتها الداخلية تجد صعوبة متزايدة في جذب المواهب الشابة والاحتفاظ بها.

تأتي هذه النتائج في وقت يشهد فيه سوق العمل البريطاني تغيرات سريعة بفعل التطور التكنولوجي والتحول الرقمي، إلى جانب الضغوط الاقتصادية المرتبطة بتكاليف المعيشة، وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى زيادة التوقعات من الموظفين الجدد، الذين يدخلون سوق العمل بمعرفة تقنية واسعة، لكنهم يفتقرون في المقابل إلى الخبرة المهنية العميقة، وفي المقابل، تعتمد الكثير من المؤسسات البريطانية على هياكل عمل تقليدية تجعل اندماج الجيل الجديد أكثر صعوبة، ما يخلق فجوة بين ما يتوقعه الشباب من بيئة عمل مرنة وداعمة، وبين الواقع الذي يصطدمون به.

 وتبرز أهمية هذه الدراسة في تقديم صورة واضحة لاحتياجات الجيل الجديد، بما يسمح للمؤسسات بإعادة النظر في سياساتها الداخلية وتطوير نماذج عمل تستوعب قدراتهم وتساعدهم على النمو بصورة تعود بالنفع على الشركات والاقتصاد ككل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية