وسط ضغوط متصاعدة.. بريطانيا تواجه معادلة الهجرة الأكثر تعقيداً منذ بريكست

وسط ضغوط متصاعدة.. بريطانيا تواجه معادلة الهجرة الأكثر تعقيداً منذ بريكست
الهجرة غير الشرعية عبر المانش

أظهرت البيانات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني البريطاني الخميس انخفاضاً غير مسبوق في معدل الهجرة إلى المملكة المتحدة خلال العام المنتهي في يونيو إذ تراجع العدد بنسبة تقارب 69 في المئة ليستقر عند 204 آلاف مهاجر مقارنة بمستويات مرتفعة سابقة، ويعكس هذا التحول تغيراً نوعياً في أنماط الهجرة النظامية وعودة نسبية إلى مستويات يراها البعض أقرب إلى المعدلات الطبيعية التي كانت قائمة قبل سلسلة الاضطرابات الاقتصادية والسياسية التي أعقبت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ويمثل هذا التراجع، الذي يعد الأكبر في بريطانيا خلال اثني عشر شهراً منذ عام 2021، نقطة مهمة لرئيس الوزراء كير ستارمر الذي يخوض معركة سياسية مفتوحة على جبهتين، فمن ناحية يسعى إلى إثبات أن حكومته قادرة على إدارة ملف الهجرة بكفاءة، ومن ناحية ثانية يواجه ضغوطاً قوية من حزب الإصلاح البريطاني اليميني الذي يتخذ من الهجرة محور حملته الأساسية وفق فرانس برس.

تراجع في الهجرة النظامية

تشير البيانات إلى أن أسباب الانخفاض متعددة، أبرزها تراجع أعداد الوافدين من دول خارج الاتحاد الأوروبي بغرض العمل أو الدراسة، وهو تحوّل تعزوه الأجهزة الحكومية إلى تشديد بعض المعايير المتعلقة بتأشيرات العمال المهرة والطلاب، إضافة إلى عوامل اقتصادية تجعل سوق العمل البريطاني أقل جذباً مما كان عليه قبل سنوات، وتظهر الإحصاءات أن 898 ألف شخص وصلوا إلى بريطانيا خلال العام نفسه، في حين غادرها 693 ألفاً بشكل دائم، ما يجعل صافي الهجرة المؤقتة في أدنى مستوى له منذ ثلاثة أعوام.

ورغم أن هذه الأرقام قد تبدو دفعة إيجابية لحكومة حزب العمال، فإن حزب المحافظين المعارض سارع إلى نسب الفضل لنفسه، معتبراً أن الإصلاحات التي أقرها رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك قبل مغادرته السلطة في صيف عام 2024 هي التي أحدثت الأثر الأكبر في الهجرة النظامية، ويستند المحافظون في حجتهم إلى أن تشديد شروط تأشيرات الطلاب والعمال المعالين بدأ قبل تولي ستارمر رئاسة الحكومة.

الهجرة غير النظامية تبقي الضغوط مشتعلة

وعلى الرغم من التراجع الحاد في الهجرة النظامية، فإن الهجرة غير النظامية ما تزال تمثل تحدياً كبيراً للحكومة، فقد وصل إلى المملكة المتحدة أكثر من 39 ألف شخص هذا العام عبر القوارب الصغيرة من خلال قناة المانش، وهو عدد أعلى مما سُجل في عام 2024 بأكمله، لكنه ما يزال أقل من الرقم القياسي الذي تم تسجيله عام 2022 حين شهدت البلاد أكبر موجة عبور غير قانوني في تاريخها الحديث.

وتمثل هذه الأرقام مصدر إحراج لحكومة ستارمر التي وعدت بفرض قواعد أشد وضوحاً وفاعلية لضبط الحدود، كما يستخدم حزب الإصلاح، بقيادة نايجل فاراج أحد أبرز مهندسي حملة بريكست، هذه الأرقام لتعزيز خطابه المتشدد الذي يلقى رواجاً لدى شرائح من الناخبين القلقين بشأن الهجرة، وقد تقدم الحزب بفارق كبير في العديد من استطلاعات الرأي خلال العام، مستفيداً من احتدام النقاش حول قدرة الحكومة على ضبط الحدود وتنظيم دخول اللاجئين والمهاجرين.

استجابات حكومية لتعزيز السيطرة

وفي محاولة لاحتواء الضغوط السياسية، أعلنت وزيرة الداخلية شابانة محمود حملة شاملة تهدف إلى التصدي للهجرة النظامية وغير النظامية، وتشمل الحملة مراجعة آليات منح التأشيرات، وتشديد الرقابة على العمالة الوافدة، وتعزيز دور أجهزة الهجرة في متابعة المقيمين الذين يخالفون شروط الإقامة.

كما تضع الحكومة آمالاً كبيرة على خطة دخول واحد خروج واحد التي تم التوصل إليها مع فرنسا للحد من تدفق القوارب الصغيرة، وتنص الخطة على أن كل مهاجر يصل إلى بريطانيا بطرق غير قانونية ويعاد إلى فرنسا سيقابله السماح بدخول مهاجر آخر عبر مسار قانوني آمن يخضع لرقابة مشتركة بين البلدين. وترى الحكومة أن هذه الآلية الجديدة ستدعم قدرتها على كبح تدفق القوارب غير الشرعية وتشجيع المهاجرين على اتباع الطرق القانونية.

تأثيرات اقتصادية واجتماعية محتملة

لا يقتصر النقاش حول الهجرة في بريطانيا على الجوانب السياسية فحسب، بل تمتد تأثيراته إلى سوق العمل والخدمات العامة. إذ تعتمد قطاعات مهمة مثل الصحة والرعاية الاجتماعية والضيافة على العمالة الأجنبية بنسبة كبيرة. وقد أثار الانخفاض الحاد في الهجرة النظامية مخاوف لدى بعض الشركات التي تخشى من نقص في العمال المهرة والموظفين في القطاعات الحيوية.

كما يحذر خبراء اقتصاديون من أن انكماش الهجرة قد يؤثر في قدرة سوق العمل على مواكبة احتياجات الاقتصاد البريطاني، خصوصاً في ظل الشيخوخة السكانية. ويشير هؤلاء إلى أن الاقتصاد البريطاني حقق استفادة ملموسة من الهجرة خلال السنوات الماضية، سواء عبر سد النقص في المهارات أو دعم الإيرادات الضريبية وقطاع الابتكار.

ورغم ذلك، يرى مؤيدو الحد من الهجرة أن التراجع الحالي خطوة ضرورية لضبط النمو السكاني وتخفيف الضغط على السكن والخدمات العامة التي تعاني من اختناقات واضحة في معظم المدن البريطانية. ويؤكد هؤلاء أن تنظيم الهجرة لا يعني إغلاق الحدود، بل تحويلها إلى نظام أكثر فاعلية وتوازناً.

حزب الإصلاح يغير قواعد اللعبة

من جهة أخرى، يواصل حزب الإصلاح فرض نفسه بوصفه قوة سياسية قادرة على تغيير ملامح المشهد الانتخابي، وقد أظهرت استطلاعات الرأي خلال العام أن الحزب يتقدم على العمال في عدد من الدوائر في حين ينافس المحافظين بقوة في أخرى، مستفيداً من خطابه الحاد الذي يربط بين الهجرة ومشكلات الأمن والاقتصاد والخدمات.

ويخشى حزب العمال من أن يؤدي هذا الصعود إلى سحب أصوات من قاعدة ناخبيه في المناطق الشمالية والوسطى التي شهدت تحولات سياسية كبيرة منذ استفتاء بريكست. ومن هنا تبدو حكومة ستارمر حريصة على إظهار تقدم ملموس في ملف الهجرة لتجنب خسارة مزيد من الدعم الشعبي.

المعادلة المعقدة بين القانون والواقع

تواجه الحكومة البريطانية معادلة تبدو أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، فهي من جهة تسعى لخفض أعداد الوافدين إلى مستويات مقبولة سياسياً، ومن جهة أخرى تدرك أن قطاعات واسعة من الاقتصاد تعتمد على العمالة الأجنبية، كما أن التعامل مع الهجرة غير النظامية تحدٍّ ينتظر حلولاً مبتكرة تتجاوز الإجراءات الأمنية التقليدية لتشمل التعاون الدولي وتعزيز المسارات القانونية الآمنة.

ولا يمكن تجاهل أن الضغوط الاجتماعية المرتبطة بقضايا السكن والرعاية الصحية والتعليم تضيف وزناً جديداً للنقاش العام، فالمواطن البريطاني يريد نظام هجرة يضمن الأمن ويوفر فرص العمل ويخفف الضغط على الخدمات، لكنه في الوقت نفسه يدرك أن بلاده بحاجة إلى العمالة الأجنبية لتسيير قطاعات حيوية.

يشكل ملف الهجرة واحداً من أكثر الملفات حساسية في السياسة البريطانية منذ عقود، لكنه اكتسب زخماً أكبر بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، فقد وجدت بريطانيا نفسها أمام ضرورة إعادة بناء منظومة الهجرة من الصفر، بعيداً عن سياسات حرية الحركة السابقة، وفرض هذا التحول نقاشاً مستمراً حول قدرة الدولة على ضبط الحدود وتوفير مسارات قانونية فعالة والهجرة الانتقائية القائمة على المهارات، كما أدى تزايد عبور القوارب الصغيرة عبر المانش إلى تحويل الهجرة غير النظامية إلى قضية مركزية في الخطاب العام، وبين مشكلات سوق العمل والضغوط الاقتصادية وارتفاع كلفة السكن تتداخل عناصر كثيرة تجعل الهجرة واحداً من أكثر الملفات تعقيداً في المملكة المتحدة، ومؤشراً مهماً على مستقبل السياسة الداخلية في البلاد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية