الدبلوماسية في مواجهة العنف.. كيف يمكن للفن والإعلام تغيير الواقع الاجتماعي؟
الدبلوماسية في مواجهة العنف.. كيف يمكن للفن والإعلام تغيير الواقع الاجتماعي؟
في مشهد حمل قوة الحقيقة، أكدت السفيرة منى مكرم، ممثلة مصر في الشبكة العربية للنساء وسيطات السلام، أن العنف ضد المرأة «ليس سوء تفاهم اجتماعيًا، ولا خلافًا أسريًا عابرًا، بل جريمة كاملة تضعف المجتمع، وتعطل التنمية، وتهدد السلم والأمن.
وقالت السفيرة منى مكرم، ما زلت أتساءل كيف نقف في القرن الواحد والعشرين وما زلنا بحاجة إلى حملات لتوضيح ما هو العنف ضد المرأة وكيف نقضي عليه، وكأننا نعيد تعريف البديهيات، ولخصت المشهد الدولي بعبارة لافتة: كأننا –رغم كل التقدم– لا نزال نبدأ من الصفر ونحاول ألا نُبدِّل المرأة تحت أي مسمى.
جاءت تلك الكلمات خلال الندوة التي استضافها المجلس القومي للمرأة تحت عنوان "دور الدبلوماسية في مواجهة العنف ضد المرأة"، اليوم الخميس، في مقر المجلس، بتنظيم من الإدارة العامة للجان ممثلة في لجنة العلاقات الخارجية.
افتتحت الجلسة السفيرة وفاء بسيم بكلمة ترحيبية، قبل أن تتوالى المداخلات التي شكّلت لوحة متكاملة عن أبعاد القضية وسبل معالجتها، وقد تضمن المؤتمر كلمات رئيسية حول الجهود الدولية والقوة الناعمة والتأثيرات النفسية، إلى جانب عرض فيلم تسجيلي عن "وحدة مناهضة العنف في الجامعات".
وخلال كلمتها، أشارت السفيرة منى مكرم إلى أن استمرار الحملة الأممية "16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة" كل عام ليس تقليدًا بروتوكوليًا، بل دليل على أن الجرح العالمي لم يلتئم بعد، وأن العنف ما زال يفرض نفسه بوقاحة في كل مكان، من مناطق النزاع إلى البيوت المغلقة.
وتابعت: "نجتمع كل سنة على الشرفات لنقول إننا نحارب العنف، لكن الواضح أنه مستمر، وأن القضاء عليه يحتاج إلى تضافر دولي ووعي مجتمعي لا يلين".
واستعرضت السفيرة حالات اتخذ فيها المجتمع الدولي موقفًا حاسمًا، من بينها تعيين مبعوثة أممية خاصة بالعنف الجنسي في مناطق النزاع ومحاكمة ضباط متورطين في انتهاكات جسيمة، مؤكدة أن هذه الخطوات، وإن لم تُنهِ المأساة بالكامل، فإنها "أوقفت سيل الإفلات من العقاب، وفتحت بابًا للعدالة الدولية".
وتطرقت إلى مفاوضات السلام في كولومبيا، حيث أصرت النساء على دخول غرفة التفاوض، ما أدى إلى إدراج ملف العنف الجنسي رسميًا في الاتفاق النهائي، وإنشاء لجنة خاصة للحقيقة تتلقى شهادات النساء.
وقالت إحدى المفاوضات: لو لم ندخل الغرفة، لما دخلت قصص النساء الاتفاق، وهي العبارة التي اعتبرتها السفيرة مكرم معيارًا لقيمة حضور النساء في مواقع صنع القرار.
وانتقلت في حديثها إلى ليبيريا، حيث قادت مجموعة من النساء تحركًا استثنائيًا عندما وقفن أمام قاعة الاجتماعات وأغلقن الطريق قائلين للقادة المتحاربين: «لن تخرجوا قبل أن توقّعوا اتفاق السلام»، ذلك الضغط –كما أوضحت– لم يُنهِ الحرب فقط، بل فتح الطريق أمام انتخاب أول امرأة رئيسة لدولة في أفريقيا.
دعم حقوق المرأة
من جانبها، قالت الدكتورة منى الصغير، عضو اللجنة الخارجية بالمجلس القومي للمرأة، إنّ المؤسسات الإعلامية في مصر تمتلك رصيدًا واسعًا من الشراكات الدولية في المجال التلفزيوني، وهي شراكات لا تُعرف تفاصيلها غالبًا لدى الجمهور، رغم ما تحمله من تأثير عميق في تطوير المشهد الإعلامي.
وأكّدت أن التجربة المصرية، تكشف عن مسار تطور لافت قد لا يدركه كثيرون ممن يراقبون المشهد من بعيد، لكن الصورة الكاملة، عند عرضها بوضوح، تحمل من الدهشة بقدر ما تحمل من الدلالات على قدرة الإعلام المصري على التجديد وإعادة صياغة أدواته.
وأشارت إلى أنّ مناقشة دور الإعلام في مواجهة الإشكاليات المرتبطة بالمحتوى التلفزيوني ضرورة لا يمكن تجاوزها، لأن الإعلام أصبح اليوم أحد أكثر الفضاءات تأثيرًا في العقل الجمعي وفي تشكيل المواقف الاجتماعية.
وهنا تبرز الحاجة إلى ضبط المصطلحات وعودة الوعي إلى مفهوم "القوة الناعمة"، تلك القوة التي لا تستند إلى الإكراه بل إلى التأثير، والتي تعمل في الداخل والخارج معًا، وتشكل أحد أبرز محركات التغيير الثقافي في أي مجتمع.
هذا المفهوم -كما أوضحت- لم يأتِ من فراغ، بل نشأ من فهم عميق لطرق التأثير غير المباشر، وتحوّل إلى أداة فعّالة قادرة على إعادة صياغة الوعي العام وإعادة ترتيب أولويات الجمهور.
تفاقم العنف ضد المرأة
توقفت الدكتورة منى عند ظاهرة العنف واستخدام القوة، معتبرة أن مواجهة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتمّ عبر القوانين وحدها، بل عبر تفعيل أدوات القوة الناعمة التي تؤثر في السلوك وتعيد تشكيل الثقافة المجتمعية.
وقدّمت مثالًا بارزًا على ذلك بفيلم «ستة سبعة ثمانية»، الذي تناول قضية التحرش من خلال ثلاث شخصيات تنتمي لشرائح اجتماعية مختلفة، في معالجة فنية شديدة الحساسية والعمق. هذا الفيلم –كما شددت– لم يكن مجرد عمل فني ناجح، بل كان لحظة وعي دفعت نحو نقاش تشريعي حقيقي، وأسهم في تغيير النظرة العامة إلى قضية التحرش، حتى أصبح مرجعًا في فهم طبيعة الظاهرة وكيفية مواجهتها اجتماعيًا ونفسيًا وقانونيًا.
وبيّنت أن قوة التأثير لا تظهر في الأعمال الفنية الكبرى وحدها، بل في خلق مساحات نقاش حقيقية، وفي تمكين الجمهور من رؤية ذاته في المرآة. فالقوة الناعمة، كما قالت، لا تُمارس من خلال الخطابة المباشرة، بل من خلال الحوار وتبادل التجارب والتأمل الجماعي في قضايا المجتمع. لذلك، فهي تتمنى لو أتيحت الفرصة لعرض مثل هذه الأعمال كاملة في جلسات حوارية مفتوحة، لأن النقاش بعد المشاهدة جزء من عملية التأثير نفسها.
كما تناولت الدور المتسارع لوسائل التواصل الاجتماعي، وما أحدثه الاستثمار في الإعلام الرقمي من تغيرات عميقة في طريقة تداول المعلومات وصنع الرأي العام. وأشارت إلى أن التطور التقني يجري أحيانًا بسرعة تفوق إدراكنا، وأن مصادفات بسيطة –كاكتشاف محتوى جديد عبر الهاتف– تكشف أن الزمن يسبقنا إن لم نواكب أدواته ونحسن توظيفها.
وأكدت أن القوة الناعمة باتت عنصرًا محوريًا في تشكيل سلوك الأفراد، سواء عبر محتوى الأطفال، أو البرامج التعليمية، أو الوثائقيات، أو الأعمال الدرامية، وكشفت أن مشاركة مصر في نماذج إعلامية أوروبية متقدمة أثبتت قدرة الإعلام على الانتقال بالمجتمع من خطاب الضحية إلى خطاب الوعي والمسؤولية. وبعدما كانت بعض الإعلانات والرسائل الإعلامية تكرّس صورًا مشوهة تحمل المرأة أعباءً زائفة، بات الفن اليوم يقدم صورة أكثر صدقًا واتساقًا مع الواقع.
وختمت بالتأكيد أن الضغط الشعبي الواعي، حين يتكامل مع الفن والإعلام، يستطيع أن يغيّر القوانين والممارسات، كما حدث في قانون التحرش ومناقشات الأحوال الشخصية، وما نعيشه اليوم –كما قالت– هو ثمرة هذا التفاعل بين وعي الناس وأدوات الثقافة، وهو ما يثبت أن القوة الناعمة ليست رفاهية فكرية، بل وسيلة فعّالة في مواجهة العنف ودعم حقوق المرأة ودفع المجتمع نحو عدالة أوسع ووعي أعمق.
مواجهة العنف ضد المرأة
أكدت الدكتورة سهير الغنيمي –أستاذ الأمراض النفسية بجامعة عين شمس- أنّ الحديث عن العنف، وتأثيره النفسي، والتحديات المرتبطة بتغيير السلوك، ليس مجرد نقاش نظري، بل مسؤولية مهنية وأخلاقية تحتم الوضوح والتدقيق.
وقالت الغنيمي، إنّ "الأمانة العلمية والإنسانية تضعنا أمام حقيقة محورية: الإنسان حين يشرع في تغيير أنماطه السلوكية أو النفسية يواجه مقاومة داخلية طبيعية، وتظهر أمامه مشكلات متعددة، بعضها متجذر في الذاكرة، وبعضها مرتبط بالبيئة أو بالضغوط الاجتماعية، وهذا ما يجعل عملية التغيير ذاتها معقدة وتتطلب وقتًا ووعيًا وتشخيصًا دقيقًا".
وأوضحت أنّ من بين التحديات التي تواجه الطبيب النفسي مسألة التوثيق أو التسجيل، مؤكدة أنها لا تجري أي تسجيل داخل المنازل أو في أي جلسة إلا وفق ضوابط قانونية صارمة، "ليس فقط لأن القانون يلزمنا بذلك، بل لأن مفهوم الأمانة يحتم احترام خصوصية المريض وحياته الشخصية".
وأضافت أنّ هذا المبدأ لا يرتبط فقط بالأخلاقيات المهنية، بل يشكّل جزءًا من العلاقة العلاجية التي تُبنى على الثقة، "فلا تغيير ولا تعافٍ دون شعور المريض بالأمان الكامل".
الحفاظ على الأمان النفسي
وتوقفت الدكتورة الغنيمي عند سؤال وصفته بـ"المحضور تراثيًا وأخلاقيًا"، يتعلق بمدى قدرة المرأة –أو أي فرد– على الحفاظ على أمانه النفسي عند الدخول في مرحلة تغيير جذري لسلوكه أو حياته.
ولفتت إلى أنّ كثيرًا من النساء يواجهن ضغوطًا ثقافية واجتماعية تعرقل مسيرة التغيير، ما يجعل دور الدعم المجتمعي والأسري، إلى جانب الدعم المهني، عاملًا حاسمًا في نجاح هذه العملية.
وأضافت أنّ المشاهد النفسية أو القصص المرتبطة بالعنف أو الصدمات لا تُستنشق كصور فقط، بل تدخل في عمق الجهاز العصبي، وتلامس مناطق الذاكرة والانفعالات، ما يجعل تحليل ردود فعل الجمهور جزءًا مهمًا من فهم الأثر العلاجي أو التوعوي لهذه الأعمال.
وتابعت الدكتورة الغنيمي حديثها بتقريب الفكرة عبر تشبيه إنساني مؤثر: "نحن نذهب إلى الطبيب حين نتعرض لورم أو كسر أو ألم واضح، لكن لا أحد يراك حين ينكسر جزء بداخلك. والكسور النفسية قد تكون أشد ألمًا من أي كسر في العظام، ومع ذلك لا تُرى. نحن نتعامل مع بعضنا –أحيانًا- كأن جروح الروح يمكن تجاهلها، بينما هي في الحقيقة تصرخ في صمت".
وبيّنت أن الإنسان يواجه في حياته اليومية "أشياء مكسورة" على مستويات مختلفة: علاقة منكسرة، وثقة مهشّمة، وذاكرة موجعة، أو خوف متراكم، وهذه كلها تحتاج إلى معالجة لا تقل أهمية عن معالجة الألم الجسدي.
وأكدت أنّ المجتمع يحتاج إلى ثقافة تُشجع على طلب المساعدة النفسية دون وصمة، وأن يدرك الجميع أنّ العافية النفسية ليست رفاهية، بل شرطًا أساسيًا لسلامة الفرد وقدرته على مواجهة العنف أو تجاوزه.
وختمت حديثها بالتأكيد أنّ مواجهة العنف ضد المرأة لا تتم فقط عبر القوانين، بل عبر إعادة بناء الوعي، وتحرير الخطاب الاجتماعي من الصور النمطية، وتعزيز القدرة على التغيير الداخلي.
وقالت: "لا نملك رفاهية تجاهل الألم النفسي، ولا يمكن أن نطالب امرأة بتغيير واقعها بينما لا نهيئ لها بيئة آمنة، ودعمًا نفسيًا، ومساحة حقيقية للتعافي".











