نداء أممي لحماية النساء.. العنف ضد المرأة أزمة عالمية مزمنة وواقع رقمي يضاعف الأخطار
نداء أممي لحماية النساء.. العنف ضد المرأة أزمة عالمية مزمنة وواقع رقمي يضاعف الأخطار
لا يزال العنف ضد المرأة واحداً من أكثر الأزمات الحقوقية انتشاراً واستمراراً حول العالم، مع تقدم لا يكاد يذكر على مدار العقدين الماضيين، فالتقرير الجديد الصادر عن منظمة الصحة العالمية وشركاء أمميين قبيل اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة يكشف واقعاً قاتماً يطول ملايين النساء.
وتشير التقديرات إلى أن امرأة واحدة من كل ثلاث نساء تقريباً، أي نحو 840 مليون امرأة، تعرضت لعنف الشريك أو للعنف الجنسي خلال حياتها، وهو رقم مستقر تقريباً منذ مطلع الألفية رغم التوعية والجهود الدولية.
وفي العام الأخير فقط، تعرضت أكثر من 316 مليون امرأة للعنف الجسدي أو الجنسي من قبل شريك حميم، في حين بلغ عدد النساء اللاتي تعرضن لعنف جنسي من شخص آخر غير الشريك منذ بلوغهن سن الخامسة عشرة نحو 263 مليوناً، ويحذر الخبراء من أن الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى بكثير بسبب الوصم والخوف والصمت الذي يجبر ملايين النساء على عدم الإبلاغ.
صوت الضحايا خلف الإحصاءات
يؤكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس أن هذه الأرقام ليست مجرد بيانات بل هي حياة نساء وفتيات تغيرت إلى الأبد.
ويرى أن العنف ضد المرأة من أقدم أشكال الظلم وأكثرها تغلغلاً في تاريخ البشرية، ومع ذلك يظل أقل الأزمات معالجة، ويشدد على أن أي مجتمع يدعي السلام أو العدالة لا يمكن أن يترك نصف سكانه يعيشون في خوف دائم.
ويقول إن إنهاء هذا العنف ليس إجراءً سياسياً فحسب، بل هو صون لكرامة الإنسان وحق المرأة في أن تعيش بأمان، ويضيف أن تمكين النساء والفتيات ركيزة أساسية للتنمية والسلام والصحة، وأن عالمًا آمنا للنساء هو عالم أفضل للجميع دون استثناء.
عمق الأزمة وقلة الحلول
يمثل التقرير الأممي الجديد الدراسة الأكثر شمولاً من نوعها منذ عقود، إذ يغطي فترة تمتد من عام ألفين حتى عام 2023 عبر بيانات مستمدة من 168 دولة، ويشير إلى أن الاستجابة ما تزال تعاني من نقص شديد في التمويل إضافة إلى اختلالات كبيرة في حماية النساء قانونياً واجتماعياً، فالأزمة ليست فقط في حجم العنف بل في ضعف الأنظمة التي يفترض أن توفر الحماية والدعم والعدالة.
ورغم أن العالم الرقمي كان يفترض أن يفتح آفاقاً واسعة أمام النساء للتعلم والعمل والتواصل، فإنه تحول بالنسبة لكثيرات إلى فضاء مليء بالخوف والانتهاك، فالعنف الرقمي يتسع بسرعة مثيرة للقلق بفعل تطور أدوات الذكاء الاصطناعي وإخفاء الهوية وضعف التشريعات، وتشمل الانتهاكات التحرش الإلكتروني والملاحقة الرقمية والتشهير ونشر الصور من دون موافقة والتزييف العميق والتضليل الإعلامي الذي يستهدف تشويه السمعة أو ترويع النساء ودفعهن إلى الانسحاب من الحياة العامة.
وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن أقل من أربعين في المئة من دول العالم لديها قوانين تحمي النساء من التحرش والمطاردة عبر الإنترنت، ما يعني أن مليارًا وثمانمئة مليون امرأة وفتاة لا يحصلن على أي حماية قانونية في الفضاء الرقمي، وتتأثر النساء في مواقع القيادة والعمل السياسي بصورة كبرى، مع تصاعد حملات التزييف العميق والتحرش المنسق الذي يهدف إلى إسكات أصواتهن وإقصائهن.
وتؤكد تقارير هيئة الأمم المتحدة للمرأة أن واحدة من كل أربع صحفيات في العالم تلقت تهديدات عبر الإنترنت قد تصل إلى حد التهديد بالقتل، وتقول المديرة التنفيذية للهيئة سيما بحوث إن ما يبدأ على الإنترنت لا يبقى على الإنترنت، وإن الإساءة الرقمية تنتشر في الحياة الواقعية وتزرع الخوف وقد تؤدي إلى العنف الجسدي أو حتى قتل النساء، وترى أن القوانين الدولية يجب أن تتطور بما يواكب التكنولوجيا، وأن الحماية القانونية الضعيفة تترك ملايين النساء والفتيات عرضة للخطر في حين يفلت الجناة من العقاب.
التكنولوجيا كسلاح
تتفاقم الأزمة مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج محتوى مسيء يصعب تتبعه أو إزالته، فالتزييف العميق أصبح وسيلة لإنتاج مواد جنسية مزيفة تستهدف النساء، وتستخدم للابتزاز أو الإهانة أو التشهير، وفي ظل ضعف الإبلاغ وعدم كفاية مساءلة شركات التكنولوجيا، يستمر هذا النوع من العنف في الانتشار على نطاق واسع عابر للحدود.
لكن هناك مؤشرات على بداية تحرك دولي. فقد بدأت عدة دول بإقرار قوانين جديدة لمواجهة العنف الرقمي، مثل قانون السلامة عبر الإنترنت في المملكة المتحدة وقانون أوليمبيا في المكسيك وتشريعات مشابهة في أستراليا والاتحاد الأوروبي، ووفق تقارير عام 2025 فإن مئة وسبع عشرة دولة تعمل حاليا على تطوير سياسات أو قوانين لمعالجة هذا النوع من العنف، ورغم ذلك تبقى الجهود مجزأة وغير قادرة على التصدي لتهديد عالمي واسع مثل العنف الرقمي.
وتدعو هيئة الأمم المتحدة للمرأة إلى مجموعة من الإجراءات الملحة، تشمل تعزيز التعاون الدولي لفرض معايير سلامة على المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي، ودعم الناجيات من العنف الرقمي عبر تمويل منظمات حقوق المرأة، وفرض مساءلة واضحة على الجناة، وتحميل شركات التكنولوجيا مسؤوليات كبرى من خلال زيادة مشاركة النساء في تطوير السياسات والمنصات، وتحسين آليات إزالة المحتوى الضار والاستجابة السريعة للشكاوى، كما تدعو إلى الاستثمار في الوقاية عبر برامج محو الأمية الرقمية وتدريب النساء والفتيات على السلامة الإلكترونية، وبناء ثقافة رقمية تحارب خطاب الكراهية والتمييز.
أزمة تتطلب عملاً عالمياً
تأتي هذه التحذيرات في سياق حملة ستة عشر يوماً من النشاط لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وهي حملة عالمية سنوية تهدف إلى رفع الوعي وحشد الجهود من أجل القضاء على هذا النوع من العنف، وتدعو الأمم المتحدة هذا العام إلى عمل عاجل لسد الثغرات القانونية على المستويات الوطنية والدولية، ولضمان مساءلة مرتكبي العنف سواء كان مادياً أو رقمياً، كما تدعو إلى تفعيل الشراكات مع منظمات المجتمع المدني وبناء إرادة سياسية حقيقية تحمي النساء وتعيد الاعتبار لأصواتهن.
وفي ظل عالم تتحرك فيه التكنولوجيا بسرعة هائلة وتتداخل فيه الحدود بين الحياة الرقمية واليومية، تصبح حماية النساء مسؤولية لا يمكن تأجيلها. فتوفير الأمن والكرامة للنساء ليس مطلباً حقوقياً فحسب بل هو شرط لبناء مجتمعات مستقرة واقتصادات مزدهرة وحياة إنسانية أكثر عدلاً.
بدأ الاعتراف الدولي بالعنف ضد المرأة بوصفه قضية حقوقية ملحة منذ التسعينيات مع إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة عام 1993 الذي وضع أول تعريف دولي واضح للعنف القائم على النوع الاجتماعي، ومع ذلك بقيت الجهود غير كافية بسبب غياب التمويل وفجوات التشريعات وضعف آليات الرصد والدعم.
ويشمل مفهوم العنف ضد المرأة كل الأفعال التي تلحق الأذى الجسدي أو الجنسي أو النفسي بالنساء سواء وقعت في المنزل أو مكان العمل أو الفضاء العام أو الإنترنت، وتشير التقديرات الأممية إلى أن العنف ضد المرأة يترك آثاراً اجتماعية واقتصادية وصحية واسعة، منها الإعاقة والاكتئاب والأمراض المزمنة وفقدان العمل وتدهور جودة الحياة، وفي السنوات الأخيرة توسعت أشكال العنف لتشمل الانتهاكات الرقمية التي أصبحت أحد أسرع أنماط العنف نمواً، ما دفع الحكومات والمنظمات الدولية إلى بدء مراجعة القوانين وبناء سياسات جديدة لحماية النساء في عالم يتغير بسرعة.










