غزة تفقد شهودها.. استشهاد أكثر من 60 صحفياً منذ بداية 2025
غزة تفقد شهودها.. استشهاد أكثر من 60 صحفياً منذ بداية 2025
منذ مطلع يناير 2025 يعيش الصحفيون في قطاع غزة واحدة من أخطر الفترات في تاريخ العمل الإعلامي، حيث تحوّلت الكاميرا والقلم إلى سبب مباشر للموت، وبحسب ما أعلنه مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين فإن أكثر من 60 صحفيا وعاملا في الإعلام استشهدوا خلال الأشهر الماضية، في حملة وُصفت بأنها من أكثر موجات استهداف الصحافة دموية في العصر الحديث، وسط صمت دولي وعجز واضح عن توفير أي شكل من أشكال الحماية.
أوضح المركز، في بيان له الأربعاء، أن غالبية الصحفيين الفلسطينيين الذين فقدوا حياتهم قُتلوا أثناء أداء عملهم الميداني المباشر، أثناء توثيق القصف والدمار ونقل معاناة المدنيين للعالم.
آخرون استشهدوا داخل منازلهم أو في خيام النزوح أو حتى داخل المستشفيات، ما يعكس اتساع دائرة الاستهداف لتشمل كل مكان يمكن أن يوجد فيه الصحفي، سواء كان في الميدان أو في موقع يفترض أنه آمن.
استهداف وجرائم موثقة
بحسب بيان المركز، لا يمكن التعامل مع هذه الوقائع بوصفها حوادث فردية أو أضرارا جانبية، بل هي نمط متكرر ومنهجي يهدف إلى إسكات الحقيقة وطمس ما يجري على الأرض من انتهاكات بحق المدنيين، فالصحفيون المستهدفون كانوا يعملون في تغطية الأحداث الإنسانية، ونقل آثار القصف على الأحياء السكنية، وتوثيق أوضاع الجرحى والنازحين، وهو ما يجعلهم شهودا مباشرين على ما يحدث في غزة.
أكد مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين أن استهداف الصحفيين المدنيين يشكل جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي، لا سيما المادتين 7 و8، اللتين تحظران الاعتداء على المدنيين واستهدافهم بشكل متعمد، ويرى المركز أن هذه الجرائم توفر أساسا قانونيا مباشرا لتوسيع نطاق التحقيقات الدولية، بما في ذلك إدراج ملفات قتل الصحفيين ضمن القضايا المنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
لا تتوقف الانتهاكات عند حدود القتل، إذ وثّق المركز سلسلة واسعة من الاعتداءات التي طالت الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، شملت إصابات بالغة، واعتقالات تعسفية، وتدمير مقار وسائل الإعلام، وتحطيم معدات التصوير والبث، إضافة إلى قطع الإنترنت والاتصالات بشكل متكرر، في محاولة لعزل غزة عن العالم ومنع تدفق المعلومات.
يشير صحفيون ميدانيون إلى أن قطع الإنترنت والاتصالات لا يقل خطورة عن القصف، لأنه يحرمهم من إرسال المواد الصحفية، ويمنعهم من طلب الإسعاف أو التنسيق مع فرق الطوارئ، وهذا العزل المفروض يدفع الصحفيين للعمل في ظروف بالغة الخطورة، دون القدرة على التواصل مع العالم الخارجي، ويضاعف احتمالات استهدافهم دون أي توثيق فوري.
قصص إنسانية خلف الكاميرا
وراء كل صحفي استشهد حكاية إنسانية غير مكتملة، فكثير منهم كانوا يعيلون عائلات، ويعملون في ظروف قاسية، متنقلين بين مناطق القصف، حاملين معداتهم على أكتافهم، مدفوعين بإيمانهم بحق الناس في أن تُسمع أصواتهم، واستشهادهم لا يعني فقدان فرد واحد، بل فقدان عين كانت ترى ولسان كان ينقل الحقيقة.
الصحفيون الذين ما زالوا يعملون في غزة يعيشون تحت تهديد دائم، فكل مهمة ميدانية قد تكون الأخيرة، وكل بث مباشر قد يتحول إلى وداع أخير، ورغم ذلك يواصل كثيرون العمل، مدفوعين بشعور أخلاقي عميق بأن الصمت أخطر من الموت، وأن غياب الصورة يعني ترك المأساة بلا شاهد.
ودعا مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين إلى فتح تحقيق دولي عاجل ومستقل في جرائم استهداف الصحفيين، ومحاسبة المسؤولين عنها، ووقف سياسة الإفلات من العقاب التي شجعت على تكرار هذه الانتهاكات، وأكد أن حماية الصحفيين ليست مسألة مهنية فحسب، بل واجباً قانونياً وأخلاقياً يضمن حق الشعوب في المعرفة، ويصون الحقيقة من التزييف والطمس.
رغم وضوح القوانين الدولية التي تكفل حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة، لا تزال آليات التنفيذ غائبة أو ضعيفة، ويرى مراقبون أن عدم اتخاذ خطوات عملية لمحاسبة مرتكبي الجرائم ضد الصحافة يبعث برسالة خطيرة مفادها أن قتل الصحفي يمكن أن يمر دون عقاب، ما يهدد مستقبل العمل الإعلامي في مناطق النزاع حول العالم.
في النزاعات الحديثة، لم تعد الصحافة مجرد ناقل للأحداث، بل أصبحت هدفا استراتيجيا، لأن الكاميرا قادرة على فضح الانتهاكات وتحدي الروايات الرسمية. من هذا المنطلق فإن استهداف الصحفيين في غزة يعكس إدراكا لأهمية دورهم، ومحاولة لكسر هذا الدور عبر الترهيب والتصفية الجسدية.
صوت لا يجب أن ينطفئ
يشدد المركز على أن إسكات الصحفيين يعني إسكات الضحايا، وحرمان العالم من معرفة ما يجري، وترك المدنيين بلا حماية أخلاقية أو قانونية. فغياب التغطية المستقلة يفتح الباب أمام مزيد من الانتهاكات، ويقوض أي فرصة لتحقيق العدالة مستقبلا.
وتعد حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة من المبادئ الأساسية في القانون الدولي الإنساني، حيث يُصنف الصحفيون المدنيون كأشخاص محميين لا يجوز استهدافهم، ومنذ تصاعد العمليات العسكرية في قطاع غزة، واجه الصحفيون ظروفا غير مسبوقة من حيث كثافة القصف، واتساع رقعة الاستهداف، وانهيار منظومات الحماية.
ومع استمرار القيود على دخول الصحافة الدولية، بات الصحفيون المحليون المصدر الأساسي للمعلومات، ما زاد من المخاطر التي يتعرضون لها، ويؤكد خبراء قانونيون أن استمرار قتل الصحفيين دون محاسبة يشكل تهديدا خطيرا لحرية الإعلام عالميا، ويستدعي تحركا دوليا جادا لضمان ألّا تتحول الحقيقة إلى ضحية دائمة في الحروب.











