بعد إنهاء الدعم الفيدرالي.. ملايين الأمريكيين يواجهون خطر فقدان تأمينهم الصحي يناير المقبل

بعد إنهاء الدعم الفيدرالي.. ملايين الأمريكيين يواجهون خطر فقدان تأمينهم الصحي يناير المقبل
الرعاية الصحية في الولايات المتحدة

تتسع فجوة صادمة في الولايات المتحدة بين من يملكون القدرة على شراء المستقبل ومن يكافحون للبقاء على قيد الحياة، فبينما ينهمك المليارديرات في تمويل أبحاث إطالة العمر ومكافحة الشيخوخة تتقلص مظلة الرعاية الصحية للفئات الأكثر فقرا وتتزايد الوفيات المبكرة في أوساطهم، هذه المفارقة لم تعد مسألة نظرية بل تحولت إلى واقع يومي ينعكس في أرقام العمر المتوقع والوفيات المرتبطة بالفقر والإهمال الصحي.

قرارات سياسية وتداعيات إنسانية

وكشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية الأحد أنه مع اقتراب شهر يناير المقبل يواجه ملايين الأمريكيين خطر فقدان تأمينهم الصحي نتيجة ارتفاع أقساط التأمين بعد قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب إنهاء الدعم الفيدرالي الذي ساعد نحو 20 مليون شخص على تحمل تكاليف التأمين في أسواق أوباما كير، هذا القرار لا يأتي في فراغ بل يتزامن مع توجهات تشريعية أوسع تقلص الإنفاق العام على الصحة لصالح تمويل تخفيضات ضريبية.

في وقت سابق من العام وافق الجمهوريون في الكونغرس على خفض يتجاوز 850 مليار دولار من ميزانيات برنامج ميديكيد المخصص لذوي الدخل المحدود وبرنامج تشيب لتأمين الأطفال، ووفق قواعد الميزانية الأمريكية فإن هذه الخطوة تضع نحو 500 مليار دولار إضافية من تمويل برنامج ميديكير في دائرة الخطر، بالنسبة لملايين الأسر يعني ذلك فقدان الرعاية الأساسية وتأجيل العلاج أو التخلي عنه تماما.

استثمارات في إبطاء الشيخوخة

على الجانب الآخر من المشهد تتحرك مليارات الدولارات في اتجاه مغاير تماما، خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية استثمر الأثرياء نحو 12.5 مليار دولار في شركات ناشئة تعمل على إطالة العمر وفق ما أوردته صحيفة "وول ستريت جورنال"، هذه الاستثمارات لا تستهدف تحسين صحة السكان بشكل عام بل تركز على تقنيات متقدمة لإبطاء الشيخوخة أو عكسها.

وقد استثمر سام ألتمان من شركة OpenAI 180 مليون دولار في شركة Retro Biosciences التي تطمح إلى إعادة برمجة الخلايا الهرمة، كما ضخ إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل وفينود خوسلا مئات الملايين في شركة NewLimit التي تسعى إلى عكس شيخوخة الخلايا وقبل أسابيع أعاد مارك زوكربيرغ هيكلة مؤسسته الخيرية للتركيز على التقاء علم الأحياء بالذكاء الاصطناعي بهدف الوصول في نهاية المطاف إلى علاج جميع الأمراض.

تراجع العمر المتوقع

ومن خلال نظرة سريعة إلى المؤشرات الصحية يتكشف عمق الأزمة، متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة في عام 2023 أصبح أقصر مما كان عليه في عام 2010، ولم يعد التراجع مقارنة بالدول الغنية في الاتحاد الأوروبي أو اليابان أو كندا فحسب بل بات العمر المتوقع عند الولادة في الولايات المتحدة أقل من نظيره في دول مثل ألبانيا وجمهورية التشيك وتشيلي وبنما وأقل بأربع سنوات من متوسط العمر المتوقع في بورتوريكو.

هذا التراجع يحدث رغم أن الولايات المتحدة تنفق على الرعاية الصحية أكثر من أي دولة أخرى. الإنفاق الضخم يغذيه نظام طبي خاص يركز على الربح ويفرض تكاليف باهظة على المرضى وشركات التأمين في كل تفاعل مع النظام الصحي بغض النظر عن جدوى التدخلات الطبية.

الفقر كمحدد للصحة

كما هي الحال مع الفقر المدقع فإن ارتفاع معدلات الوفيات في الولايات المتحدة ليس نتيجة نقص تقني أو عجز اقتصادي بل نتيجة خيارات سياسية واجتماعية، البلاد غنية وقادرة على تطوير أحدث الأدوية والعلاجات لكنها تفشل في ضمان وصول الجميع إلى مقومات الحياة الصحية الأساسية من فرص العمل اللائقة إلى المياه الصالحة للشرب والتأمين الصحي.

العلاقة بين الفقر والموت في أمريكا وثيقة، من إدمان الفنتانيل إلى السمنة المفرطة والانتحار لا تتطلب أخطر الأزمات تقنيات متقدمة بقدر ما تحتاج إلى إصلاح العقد الاجتماعي، الوقاية والتعليم والدعم الاجتماعي قد تنقذ أرواحا أكثر مما تفعله مختبرات مكافحة الشيخوخة.

فجوة عمرية بين الأغنياء والفقراء

الأشخاص الذين يمولون تقنيات إطالة العمر لا يواجهون خطر الموت المبكر. التفاوت في متوسط العمر المتوقع داخل الولايات المتحدة من الأعلى بين الدول ذات الدخل المرتفع، دراسة أجراها باحثون من جامعات هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وماكينزي ووزارة الخزانة قبل نحو عشر سنوات أظهرت أن أغنى 1 بالمئة من الرجال الأمريكيين يعيشون 14.6 سنة أطول من أفقر 1 بالمئة، أما عند النساء فالفجوة تبلغ 10.1 سنة. كما اتسعت الفجوة بين أعلى 5 بالمئة وأفقر 5 بالمئة بأكثر من عامين بين عامي 2001 و2014.

هذه الأرقام تعني أن المكانة الاقتصادية باتت محددا حاسما لطول العمر، الفقر لا يقلص فرص التعليم والعمل فقط بل يختصر سنوات الحياة نفسها.

وفيات يمكن تجنبها

في مختلف أسباب الوفاة التي تصيب الأمريكيين بمعدلات أعلى من غيرهم يلعب الفقر دورا مركزيا، دراسة لاقتصاديين من جامعة براون وكلية دارتموث وجامعة جنوب كاليفورنيا بينت أن معدل وفيات الرضع لأمهات أمريكيات ميسورات يكاد يطابق نظيره لدى الأمهات الأوروبيات الميسورات، الارتفاع في وفيات الرضع في الولايات المتحدة يعود بشكل شبه كامل إلى أطفال الأسر الفقيرة.

القائمة طويلة وتشمل ارتفاع وفيات الأمهات والرضع وزيادة معدلات الانتحار والقتل المرتبطة بانتشار السلاح وحوادث الطرق وأمراض الرئة الناتجة عن تاريخ طويل من التدخين والسمنة، كما تبرز ما سماه الاقتصاديان أنغوس ديتون وآن كيس وفيات اليأس والتي ترتبط اليوم غالبا بجرعات زائدة من الفنتانيل.

سياسات تتجاهل التحذيرات

قصر أعمار الأمريكيين ليس اكتشافا جديدا، ففي عام 2013 نشرت المعاهد الوطنية للصحة دراسة واسعة بعنوان صحة الولايات المتحدة من منظور دولي أعمار أقصر وصحة أسوأ، الدراسة قدمت توصيات واضحة مستندة إلى تجارب دول أخرى، لكن الاستجابة السياسية كانت محدودة، ومحاولات متكررة لإلغاء قانون الرعاية الصحية الميسرة تبعتها تخفيضات ميديكيد وتعثر جداول التطعيم نتيجة سياسات مثيرة للجدل.

 وكانت النتيجة نظاماً صحياً قادراً على إنتاج معجزات طبية لكنه عاجز عن توفير العدالة الصحية، بينما يُترك الفقراء لمواجهة المرض والموت المبكر يُفتح أفق طويل العمر لمن يملكون المال.

يعكس الجدل حول الصحة في الولايات المتحدة صراعا أعمق حول دور الدولة والعدالة الاجتماعية، فمنذ عقود يتأرجح النظام الصحي بين تدخل حكومي محدود وهيمنة قطاع خاص ربحي، برامج مثل ميديكيد وميديكير شكلت شبكات أمان أساسية لكنها ظلت عرضة للتقليص السياسي، وفي المقابل تسارعت استثمارات التكنولوجيا الحيوية مدفوعة بثروات وادي السيليكون ووعود الذكاء الاصطناعي، وهذا التباين خلق واقعا تصبح فيه إطالة عمر الإنسان مشروعا استثماريا للنخبة بينما يظل ضمان الحياة الصحية الكريمة لمعظم السكان تحديا غير محسوم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية