تحت ضغط ترامب والغلاء.. تراجع العمل الخيري كحق اجتماعي في الولايات المتحدة

تحت ضغط ترامب والغلاء.. تراجع العمل الخيري كحق اجتماعي في الولايات المتحدة
العمل الخيري- أرشيف

يُنظر إلى العمل الخيري في الأدبيات الحقوقية باعتباره أحد أعمدة الحق في التضامن الاجتماعي، ورافعة غير مباشرة لحقوق أساسية مثل الحق في الغذاء، والصحة، والتعليم، والوصول إلى المعلومة، لكن تراجع التبرعات في الولايات المتحدة، لا يعكس أزمة مالية فحسب، بل يكشف اختلالًا أعمق في علاقة المجتمع بالدور الحقوقي للقطاع غير الربحي.

تُظهر مجلة "الإيكونوميست" أن الولايات المتحدة تشهد في عام 2025 تراجعًا ملحوظًا في عدد المتبرعين للأعمال الخيرية، في وقتٍ يُفترض فيه أن تبلغ ذروة العطاء مع نهاية العام، وتوضح المجلة أن هذا التراجع لا يمكن اختزاله في سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحدها، رغم تأثيرها الواضح على البيئة العامة للعمل الخيري.

وتكشف بيانات مشروع فعالية جمع التبرعات (Fundraising Effectiveness Project – FEP)، وهو جهة متخصصة في تحليل بيانات التبرعات، أن عدد المتبرعين في الولايات المتحدة انخفض بنحو 3% خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، في اتجاه يُنذر بانخفاض عدد المتبرعين للعام الخامس على التوالي.

وتلفت المجلة إلى أن هذا التراجع لا يقتصر على الفئات ذات الدخل المحدود، بل يمتد إلى الأثرياء، إذ يُظهر استطلاع بنك أوف أمريكا أن نسبة الأسر التي تتجاوز ثروتها مليون دولار وتقدّم تبرعات انخفضت من 91% عام 2015 إلى 81% عام 2024.

المنظمات غير الربحية

يفاقم تراجع عدد المتبرعين الضغط على المنظمات غير الربحية، رغم تسجيل ارتفاع محدود في إجمالي قيمة التبرعات، ووفقًا لتقرير "العطاء في الولايات المتحدة" السنوي، المستند إلى أبحاث جامعة إنديانا، ارتفع إجمالي التبرعات في الولايات المتحدة –بما يشمل الأفراد والشركات والمؤسسات والوصايا– بنسبة 3.3% بالقيمة الحقيقية خلال عام 2024، ليصل إلى ما يزيد قليلًا على 590 مليار دولار.

وتوضح "الإيكونوميست" أن هذا الارتفاع الطفيف جاء بعد فترة من التراجع عقب جائحة كوفيد-19، ولا يعكس بالضرورة تعافيًا هيكليًا، بل يُخفي خلفه تقلّصًا في قاعدة المانحين واتساع الفجوة بين عدد المتبرعين وقيمة التبرعات.

وتربط المجلة هذا الوضع بتراجع التمويل الحكومي، مشيرة إلى أن قرار إدارة ترامب إغلاق وكالة المعونة الرسمية الأمريكية تصدّر العناوين، لكنه ليس حالة معزولة، إذ تُظهر بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن مساعدات التنمية الرسمية من أكبر المانحين في العالم انخفضت عام 2024 لأول مرة منذ ست سنوات.

السياسة ومناخ التخويف

هاجم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ عودته إلى منصبه في يناير الماضي، بعض الجمعيات الخيرية واصفًا إياها بـ"المبذرة" و"المسيّسة"، وربط قضايا مثل تغيّر المناخ والتعليم العالي والتنوّع بما أسماه "معاداة ترامب".

وأصدر البيت الأبيض، عقب اغتيال الناشط المحافظ تشارلي كيرك في سبتمبر، توجيهات لأجهزة إنفاذ القانون بـ"حلّ واستئصال" شبكات متهمة بدعم الإرهاب المحلي، شملت جمعيات خيرية ومؤسسات غير ربحية.

يقول أستاذ السياسات العامة في جامعة نيويورك ثاد كالابريس، إن التبرع لبعض المشاريع في الولايات المتحدة بات يُشعر البعض وكأنهم "يضعون أنفسهم هدفًا للهجوم"، في إشارة إلى تصاعد القلق من الملاحقة السياسية أو القانونية.

الحق في العطاء

تؤكد مجلة الإيكونوميست أن العوامل الاقتصادية تلعب دورًا محوريًا في تراجع التبرعات، ورغم ارتفاع الأجور بالقيمة الحقيقية خلال العقد الماضي، تُظهر استطلاعات الرأي قلقًا متزايدًا لدى الأمريكيين من غلاء المعيشة.

وأفاد استطلاع شركة ماكينزي في نوفمبر، بأن نحو نصف المشاركين عبّروا عن قلقهم من ارتفاع الأسعار، بينما أبدى ربعهم تقريبًا مخاوف من صعوبة تغطية نفقاتهم، ووفقًا لبيانات FEP، كان السبب الأكثر شيوعًا لعدم التبرع في عام 2024 هو عدم القدرة على تحمّل التكاليف.

وينقل التقرير عن المدير التنفيذي لمنظمة "أنلوك إيد" والتر كير قوله إن هذه المخاوف تعني أن الطبقة المتوسطة لم تعد تشعر بالراحة في العطاء، ما يضعف أحد أعمدة التمويل التقليدية للقطاع غير الربحي.

التدين وتراجع السخاء

تُضيف الإيكونوميست عاملًا اجتماعيًا آخر يتمثل في تراجع التدين، وتوضح أن الأديان لطالما لعبت دورًا في ترسيخ ثقافة الكرم، سواء عبر العشور أو الزكاة أو غيرها من أشكال العطاء.

وتشير المجلة إلى استطلاع مؤسسة غالوب الذي وجد أن التدين يتراجع في الولايات المتحدة بوتيرة أسرع من أي دولة أخرى رصدتها المؤسسة، ونتيجة لذلك، انخفضت التبرعات للجماعات الدينية –التي كانت تمثل غالبية التبرعات حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي– إلى أقل من ربع إجمالي التبرعات في عام 2024.

تُكمل وكالة أسوشيتد برس الصورة عبر استطلاع AP-NORC لأبحاث الشؤون العامة، الذي أُجري في أوائل ديسمبر، والذي يكشف أن نحو نصف البالغين في الولايات المتحدة قالوا إنهم تبرعوا بالفعل في عام 2025.

ويُظهر الاستطلاع أن 18% تبرعوا ويخططون للتبرع مرة أخرى قبل نهاية العام، بينما قال 6% إنهم لم يتبرعوا بعد لكنهم سيفعلون ذلك قبل نهاية ديسمبر، في المقابل، أفاد 30% بأنهم لم يتبرعوا ولا يخططون لذلك.

وتربط أسوشيتد برس هذا التراجع بتضارب الأولويات، في ظل تخفيضات إدارة ترامب لمنح الخدمات الاجتماعية، والتقليصات الحادة في المساعدات الخارجية، وتجميد برنامج SNAP في نوفمبر، إلى جانب كوارث طبيعية مثل حرائق لوس أنجلوس.

القدرة على التضامن

تنقل أسوشيتد برس شهادة الشاب من ولاية ميسوري أوكلي غراهام، البالغ من العمر 32 عامًا، الذي قال إن الجمعة السوداء استنزفت قدرة الكثيرين على التبرع قبل يوم العطاء العالمي، وأوضح أنه وزوجته شدّدا قبضتهما على النفقات بسبب ديون قروض الطلاب وارتفاع تكاليف المعيشة.

كما تنقل الوكالة قصة المهندس المعماري من تكساس تشاك ديتريك، البالغ من العمر 69 عامًا، الذي يتبع نهجًا مختلفًا، مفضلًا التبرع بمبالغ صغيرة لعدة منظمات أثّرت في حياته، بمتوسط يتراوح بين 501 و2500 دولار.

وشهادة المعلمة من بالتيمور جينين ديسفيسكور، البالغة من العمر 63 عامًا، التي زادت تبرعاتها ردًا على تخفيضات التمويل الفيدرالي، دعمًا لمنظمات إعلامية ومؤسسات تعمل مع اللاجئين.

بات العمل الخيري في الولايات المتحدة يعتمد بشكل متزايد على فئة صغيرة من المتبرعين "السخيين جدًا"، ووفقًا لتقديرات FEP، فإن المتبرعين الذين قدّموا 50 ألف دولار أو أكثر شكّلوا 0.4% فقط من إجمالي المتبرعين، لكنهم أسهموا بأكثر من 50% من إجمالي التبرعات خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025.

وأشارت "الإيكونوميست" إلى تعهدات ضخمة، مثل إعلان مؤسسة غيتس إنفاق 200 مليار دولار خلال عشرين عامًا، وتبرعات ماكنزي سكوت التي بلغت 7 مليارات دولار في عام واحد، لكنها تؤكد أن هذا السخاء الفائق لا يعوّض تآكل المشاركة الشعبية الواسعة.

ويعكس تراجع التبرعات، أزمة تتجاوز المال إلى تآكل الحق في التضامن، وتحوّل العمل الخيري من ممارسة مجتمعية واسعة إلى نشاط نخبوّي محدود، بما يهدد قدرة القطاع غير الربحي على حماية حقوق الفئات الأكثر هشاشة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية