حين يتحول الغذاء إلى ملف سياسي.. الإغلاق الحكومي يدفع ملايين الأمريكيين نحو الجوع
وقف تمويل برنامج المساعدة الغذائية التكميلية (SNAP)
باتت قضية المساعدات الغذائية إلى واحدة من أكثر الأزمات الحقوقية إرباكًا في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، حيث تحولت من ملف اجتماعي إلى معركة سياسية وقانونية بين الحكومة الفيدرالية وعدة ولايات، بعدما تسبب الإغلاق الحكومي في تهديد حق ملايين الأمريكيين في الغذاء.
ووفقا لصحيفة "نيويورك تايمز" رفعت أكثر من 24 ولاية دعوى قضائية ضد إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بسبب قرارها وقف تمويل برنامج المساعدة الغذائية التكميلية (SNAP) خلال فترة الإغلاق الحكومي، في خطوة وصفتها بأنها "تصعيد قانوني غير مسبوق في معركة الغذاء والكرامة"، لتكشف عن هشاشة البنية الاجتماعية في دولة تُعدّ من أغنى دول العالم، لكنها تواجه خطر الجوع بين أكثر من 42 مليون إنسان يعتمدون على قسائم الطعام بوصفها مصدراً رئيسياً لتأمين غذائهم.
وفي الدعوى المقدمة أمام المحكمة الفيدرالية في ماساتشوستس، جادلت الولايات بأن قرار وزارة الزراعة الأمريكية انتهاك واضح للحق في الغذاء، وهو حق رسخته التشريعات الفيدرالية منذ ستينيات القرن الماضي.
ورغم امتلاك الوزارة صندوق طوارئ يُقدّر بنحو 6 مليارات دولار لتغطية الحالات الاستثنائية، فإنها رفضت استخدامه خلال فترة الإغلاق، بحجة أنه "غير متاح قانونيًا"، ما وضع ملايين الأسر أمام خطر الجوع الفعلي خلال أيام.
مكافحة الفقر الغذائي
يُعدّ برنامج SNAP الذي يغطي نحو واحد من كل ثمانية أمريكيين، من أهم أدوات الدولة في مكافحة الفقر الغذائي، غير أن قرار الإدارة السابقة بعدم تمديد التمويل الطارئ، كما نقلت "نيويورك تايمز"، مثّل تحولًا جذريًا في مفهوم الدولة عن التزامها بالحقوق الاجتماعية، إذ عومل الغذاء بوصفه ملفاً سياسياً قابلاً للتفاوض، لا حقاً إنسانياً غير قابل للمساومة.
لم تتردد المدعية العامة في نيويورك، ليتيتيا جيمس، في وصف الموقف بأنه "تخلٍّ متعمد عن الأسر الفقيرة"، مؤكدة أن وزارة الزراعة تمتلك الموارد اللازمة لاستمرار البرنامج، وأنه "لا عذر للتخلي عن الأسر التي تعتمد على SNAP كأنه شريان حياة".
ووفقًا لصحيفة "الغارديان"، حذر مسؤولون في عدة ولايات من أن أي توقف في المساعدات الغذائية سيؤدي إلى "أزمة جوع وطنية"، لا تقتصر على المستفيدين المباشرين فحسب، بل تمتد إلى التجار، وبنوك الطعام، والمنظمات الخيرية التي ستجد نفسها عاجزة عن سد الفجوة.
في ولاية كارولينا الشمالية، حيث يعتمد واحد من كل أربعة مواطنين على المساعدات الغذائية، وصف المدعي العام جيف جاكسون قرار الإدارة بأنه "تعجيل متعمد بأزمة إنسانية"، مؤكدًا أن المنظمات الأهلية لن تستطيع تعويض النقص.
أما في لويزيانا، فقد اضطر الحاكم الجمهوري جيف لاندري إلى استخدام أموال الطوارئ المحلية لتغطية البرنامج حتى بداية نوفمبر، في محاولة مؤقتة لتجنب الانقطاع، في حين لجأت ولايات أخرى إلى تشريعات عاجلة لتعبئة الموارد المحلية.
لكن وفق ما نقلته صحيفة "بوليتيكو"، فإن واشنطن رفضت هذه التحركات وهددت بعدم تعويض الولايات التي تموّل المساعدات ذاتيًا، معتبرة أن أي إعادة برمجة للأموال دون موافقة فيدرالية تُعد مخالفة قانونية، هذا الموقف حوّل الخلاف من نزاع إداري إلى صراع على معنى العدالة الاجتماعية في بلد يُفترض أنه نموذج للرفاه الاقتصادي.
تآكل البعد الإنساني
تذهب صحيفة "نيويورك تايمز" أبعد من الجانب القانوني، معتبرة أن الأزمة تكشف تآكل البعد الإنساني في صنع القرار الأمريكي، فبينما أُعيد توجيه مليارات الدولارات لتغطية نفقات أمن الحدود ورواتب القوات الفيدرالية، تُركت برامج التغذية التي تمسّ حياة الفقراء والعمال وأصحاب الإعاقة دون تمويل.
وبينما استمرت الحكومة في دعم المزارعين، كما أشارت الصحيفة، تجاهلت الأسر التي تعتمد على قسائم الطعام لتأمين وجبتها اليومية.
أما السيناتور الجمهوري جوش هاولي، الذي كتب مقالًا رأيًا في "نيويورك تايمز" بعنوان "ينبغي لأي أمريكي ألا ينام جائعًا"، شدد فيه على أن "محبة الجار جزء من هوية أمريكا"، داعيًا الكونغرس إلى تمرير تشريع عاجل يضمن استمرار تمويل المساعدات الغذائية، حتى في ظل الإغلاق الحكومي.
وأشار هاولي إلى أن تكلفة منع الجوع لا تمثل سوى "عُشر ميزانية الدفاع الأمريكية"، متسائلًا: "كيف لأمة غنية بهذا الحجم أن تسمح لجيرانها بالنوم جائعين؟".
الجوع قضية عدالة لا سياسة
تكشف الأزمة أن الحق في الغذاء في الولايات المتحدة لم يعد مضمونًا تشريعيًا بل مشروط سياسي، ويشير تقرير "الغارديان" إلى أن الصراع حول برنامج SNAP تجاوز حدود الخلاف الحزبي، ليصبح اختبارًا أخلاقيًا لمدى التزام الدولة بمبدأ الكرامة الإنسانية، فالحرمان من الغذاء لا يُعدّ مجرد فشل إداري، بل انتهاكًا مباشرًا لحقوق الإنسان يطول الفئات الأكثر ضعفًا: الأطفال، وذوي الإعاقة، والعاطلين مؤقتًا عن العمل.
تُظهر الرسائل التي تلقاها هاولي من سكان ميزوري، كما ورد في "نيويورك تايمز"، البعد الإنساني للأزمة: أمٌّ متقاعدة تخشى على أحفادها الأربعة من الجوع، وعاملة مريضة فقدت مصدر رزقها، وزوجة تصف قسائم الطعام بأنها "الفرق بين الحياة والموت"، هذه الشهادات ليست مجرد قصص شخصية، بل مرآة لوضع إنساني أعمق يختبر حدود التضامن الاجتماعي في واحدة من أكثر الدول ثراءً في العالم.
رغم استمرار الجدل القانوني حول أحقية استخدام صندوق الطوارئ، فإن جذور الأزمة تتجاوز المسألة الإجرائية إلى سؤال أخلاقي أعمق: هل يحق للدولة تعليق حقوق الإنسان الأساسية بذريعة الإغلاق؟ الإجابة، كما تُبرزها تغطية بوليتيكو والغارديان، تكمن في إدراك أن برامج مثل SNAP ليست مجرد إعانات مالية، بل تجسيد لالتزام المجتمع بحق الإنسان في العيش بكرامة، وهو التزام يجب ألا يخضع لتوازنات الميزانية أو الخلافات الحزبية.
تذكّر مأساة الجوع في بلد الثراء الفاحش ، كما تقول "نيويورك تايمز"، بأن الحق في الغذاء ليس قضية عالم الجنوب فقط، بل قضية إنسانية شاملة، يمكن أن تنهار في أي مكان حين تتحول العدالة الاجتماعية إلى ملف سياسي قابل للتفاوض.











