بين حرية التعبير والمسؤولية.. دعوة ألمانية لفرض الأسماء الحقيقية على وسائل التواصل

بين حرية التعبير والمسؤولية.. دعوة ألمانية لفرض الأسماء الحقيقية على وسائل التواصل
استخدام وسائل التواصل

أعادت ولاية بافاريا الألمانية فتح ملف شائك طالما أثار جدلا واسعا في أوروبا، يتعلق بحدود حرية التعبير على الإنترنت ومسألة المجهولية الرقمية، بعدما دعت إلى إلزام مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي بالظهور بأسمائهم الحقيقية، ولم تمر الدعوة التي أطلقها وزير الرقمنة في الولاية، فابيان ميرينج، بهدوء، إذ أعادت إلى الواجهة أسئلة جوهرية حول العلاقة بين حرية الرأي والمسؤولية القانونية، وحدود تدخل الدولة في الفضاء الرقمي.

وفي تصريحات لصحيفة تاجس شبيجل، أوردتها وكالة الأنباء الألمانية الجمعة، أكد ميرينج أن استخدام الأسماء الحقيقية على منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن يسهم في تحسين ثقافة الحوار العام، مشددا على أن حرية التعبير لا تعني الحق في الاختباء خلف هوية مجهولة، وقال إن من يعبّر عن آرائه في الفضاء العام، سواء في الشارع أو على الإنترنت، يجب أن يتحمل مسؤولية كلماته.

المسؤولية قبل حرية المجهولية

يرى وزير الرقمنة في بافاريا أن النقاشات على الإنترنت باتت تعاني من مستويات غير مسبوقة من الكراهية والتحريض والإهانات، وهو ما يعزوه جزئيا إلى سهولة التخفي وراء أسماء وهمية أو حسابات مجهولة، وأوضح أن ما يعد جريمة أو سلوكا مرفوضا على طاولة نقاش في مقهى أو ساحة عامة، يجب أن يُعامل بالطريقة ذاتها عندما يحدث في العالم الرقمي.

وأكد ميرينج أن فرض الأسماء الحقيقية على منصات التواصل لا يهدف إلى تكميم الأفواه أو الحد من التنوع في الآراء، بل إلى تمكين دولة القانون من القيام بدورها في حماية الأفراد والمجتمع، وأضاف أن الشخص الذي يدرك أن تصريحاته قد تترتب عليها عواقب قانونية سيكون أكثر حرصا ومسؤولية في التعبير، ما ينعكس إيجابا على جودة النقاش العام.

الكراهية الرقمية تحت المجهر

تأتي هذه الدعوة في سياق تصاعد القلق في ألمانيا من انتشار خطاب الكراهية والتحريض عبر الإنترنت، خصوصا ضد الأقليات والصحفيين والسياسيين، وتشير تقارير رسمية إلى زيادة ملحوظة في الجرائم المرتبطة بالكراهية الرقمية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما دفع السلطات إلى تشديد القوانين المتعلقة بمكافحة المحتوى غير القانوني على الشبكات الاجتماعية.

ويؤكد ميرينج أن المجهولية أصبحت غطاء يستتر خلفه من يطلق تهديدات أو يمارس تحريضا أو ينشر معلومات مضللة، معتبرا أن هذا الوضع يقوض أسس التعايش السلمي والثقة المجتمعية، وشدد على أن الكراهية لا يجب أن تختبئ خلف ستار الإنترنت، وأن الفضاء الرقمي يجب أن يخضع للمبادئ ذاتها التي تحكم الحياة العامة.

بين حماية النقاش وحقوق المستخدمين

رغم تأكيد الوزير البافاري أن المقترح لا يستهدف تقييد الآراء، فإن الدعوة أثارت تساؤلات واسعة حول تأثيرها المحتمل على الخصوصية وحرية التعبير، خاصة بالنسبة للصحفيين والناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين يعتمدون أحيانا على المجهولية لحماية أنفسهم من الملاحقة أو التهديد.

ويرى منتقدو الفكرة أن فرض الأسماء الحقيقية على منصات التواصل قد يدفع بعض المستخدمين إلى الصمت، خصوصا في القضايا الحساسة أو عند انتقاد السلطات أو الشركات الكبرى، كما يحذر آخرون من مخاطر إساءة استخدام البيانات الشخصية، في ظل تزايد الهجمات الإلكترونية وتسريب المعلومات.

في المقابل، يؤكد مؤيدو المقترح أن وجود آليات استثناء وحماية قانونية يمكن أن يوازن بين الحاجة إلى المساءلة وضمان سلامة الأفراد، مشددين على أن المجهولية المطلقة لم تعد مبررة في عصر باتت فيه المنصات الرقمية جزءا لا يتجزأ من المجال العام.

الفضاء الرقمي كمساحة عامة

يشدد ميرينج على أن الإنترنت لم يعد فضاء منفصلا عن الواقع، بل أصبح امتدادا للحياة اليومية، تؤثر فيه الكلمات والتصريحات على السلم الاجتماعي كما تؤثر الأفعال على الأرض، ويرى أن الدولة ملزمة بضمان احترام القانون في هذا الفضاء، تماما كما تفعل في الشوارع والمؤسسات.

وقال إن فرض الأسماء الحقيقية من شأنه أن يسهل ملاحقة الجرائم الرقمية، ويوفر حماية أكبر لضحايا الإساءة والتهديد، ويعزز ثقة المواطنين في النقاشات العامة على الإنترنت. 

وأضاف أن الهدف النهائي هو خلق بيئة رقمية أكثر تحضرا، تقوم على الاحترام والمسؤولية المتبادلة.

ردود فعل أولية ونقاش مفتوح

لم تصدر بعد مواقف رسمية شاملة من الحكومة الاتحادية بشأن مقترح بافاريا، إلا أن النقاش بدأ يتسع في الأوساط السياسية والإعلامية، ويتوقع مراقبون أن يثير المقترح نقاشا قانونيا معمقا، خاصة في ظل القوانين الأوروبية الصارمة المتعلقة بحماية البيانات وخصوصية المستخدمين.

ويرى خبراء في القانون الرقمي أن أي خطوة في هذا الاتجاه تحتاج إلى تنسيق على المستوى الاتحادي وربما الأوروبي، لضمان عدم تعارضها مع القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها حرية التعبير وحماية الخصوصية.

شهدت ألمانيا خلال السنوات الماضية تشديدا ملحوظا في القوانين المنظمة للفضاء الرقمي، أبرزها قانون تحسين تطبيق القانون على شبكات التواصل، الذي ألزم المنصات الكبرى بإزالة المحتوى غير القانوني، مثل خطاب الكراهية والتحريض، خلال فترات زمنية محددة، كما أنشأت السلطات وحدات خاصة لملاحقة الجرائم الإلكترونية، في ظل تزايد البلاغات المتعلقة بالإساءة والتهديد عبر الإنترنت. في المقابل، لا يزال الجدل قائما حول حدود المجهولية الرقمية، إذ يعتبرها البعض ركيزة أساسية لحرية التعبير، بينما يراها آخرون عاملا مساهما في تفشي العنف اللفظي والتضليل.

وتأتي دعوة ولاية بافاريا في هذا السياق المحتدم، لتعيد طرح سؤال مركزي حول كيفية تحقيق توازن عادل بين حماية النقاش الحر وضمان المساءلة القانونية في العصر الرقمي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية