لا لمحو الثقافة الروسية

لا لمحو الثقافة الروسية

قبل أن يكتب «الإخوة كارامازوف» أو «رسائل من باطن الأرض»، أصدرت الحكومة القيصرية حكما بالموت في حق فيودور دوستويفسكي بسبب مشاركته المزعومة في أنشطة ثورية، وأُرسِـل إلى معسكر اعتقال في سيبيريا، وأُجـبِـر على أداء الخدمة العسكرية في المنفى. ومع ذلك، لم يكن إلا بعد عودته من أوروبا، حيث عاش سنوات في الحرية، أن كتب دوستويفسكي في كتابه «مذكرات كاتب» أن كل الناس «يُـضمِـرون سِرا الحقد ضد الروس»، وأنهم يعتبرون الروس «أتباعا وعبيدا».

والآن، مع حرص العديد من المؤسسات الثقافية، إن لم يكن معظمها، في كل من أوروبا والولايات المتحدة، على «إلغاء» الفنانين الروس والثقافة الروسية فعليا، تبدو كلمات دوستويفسكي أكثر صدقا من أي وقت مضى. كما أشار إيان بوروما مؤخرا، يتصوَّر الروس الآن على نحو متزايد أن الكرملين ربما كان على حق طوال الوقت: فروسيا «قلعة محاصرة» حقا، أساء الغرب الـمُـعادي فهمها منذ الأزل ويعمل على تقويضها إلى الأبد. بطبيعة الحال، تنطوي هذه القضية على شيء أشبه بمسألة «أيهما أولا، البيضة أو الدجاجة». جاء رفض الغرب للثقافة الروسية ردا على إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شن «عملية عسكرية» في أوكرانيا. لكن هذه العملية، كما يزعم بوتين، كانت استجابة للعداء الغربي -وخاصة الجهود التي تبذلها أمريكا لتحويل أوكرانيا إلى «كيان مناهض لروسيا». وفقا للسفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، فإن الهدف ليس إزالة أوكرانيا، «الدولة العزيزة الصديقة»، بل منعها من خدمة «أجندة أمريكا المناهضة لروسيا». وحتى الروس الذين لا تقنعهم بشكل كامل رواية الكرملين بشأن أوكرانيا يشعرون بالذعر إزاء السهولة التي انقلب بها الغرب على كل ما هو روسي. بعد الحرب العالمية الثانية، استمرت المدارس في تعليم اللغة الألمانية، وواصلت فرق الأوركسترا أداء أعمال باخ وموتسارت أمام جماهير في مسارح كاملة العدد، واستمر الناس في قراءة أعمال جوته وتوماس مان. لم تلطخ جرائم النازيين كل التاريخ الألماني والثقافة الألمانية. ولكن، منذ شن بوتين حربه على أوكرانيا، أقالت أوركسترا ميونيخ الفلهارمونية قائدها الروسي فاليري جيرجيف، وقطعت أوبرا نيويورك ميتروبوليتان كل الروابط مع مسرح البولشوي الروسي. واستُـبـعِـد الموسيقيون الروس من المسابقات الدولية. حتى أن بعض فرق الأوركسترا أزالت أعمال تشايكوفسكي من برامج حفلاتها الموسيقية.

وَصَـفَ مؤلف روسي عظيم آخر، فلاديمير نابوكوف، الميل إلى رفض الثقافة كشكل من أشكال الابتذال. في حين قد يبدو قطع العلاقات مع الجامعات الروسية أقل سوقية وابتذالا من تحطيم المتاجر الألمانية في شارع نيفسكي بروسبكت في سانت بطرسبرج، كما فعل القوميون الروس في العقد الأول من القرن العشرين، فإن المشاعر الأساسية هي ذاتها في الحالتين.

حتى في حالة أوكرانيا، يبدو أن نبذ الفن الروسي والثقافة الروسية يستند إلى منطق معيب. بالطبع، إذا كان لنا أن نجد لأي جهة المبرر لرفض روسيا فإن هذه الجهة هي أوكرانيا. لكن قرار إزالة الأدب الروسي واللغة الروسية من مناهج المدارس ليس على ذات القدر من صراحة ومباشرة نداء نائب وزير التعليم والعلوم الأوكراني أندري فيترينكو: «تخلصوا من كل شيء يربطنا بأي شكل من الأشكال بالإمبراطورية الروسية».

حث المخرج السينمائي الأوكراني سيرجي لوزنيتسا على توخي الحذر في إلغاء الفنانين الروس، جزئيا لأن ما يجعل شيئا ما «روسيا» ليس واضحا دائما. طُـرِد لوزنيتسا من أكاديمية السينما الأوكرانية بسبب موقفه، لكنه يشير إلى نقطة منطقية. الواقع أن نهج وزير التعليم في التعامل مع نيكولاي جوجول يسلط الضوء على هذا الغموض. فبرغم أن جوجول وُلِـد في أوكرانيا -وأن قصصه الأوكرانية لن تُـمـنَـع- فقد كتب روائع مثل «المعطف» و«أرواح ميتة» أثناء إقامته في سانت بطرسبرج وروما. وعلى هذا فسوف تُـحـظَـر مثل هذه الأعمال من المدارس الأوكرانية، مما يحرم طلاب أوكرانيا من فنون رائعة من تأليف عبقري يزعم العديد من الأوكرانيين أنه منهم. وفقا لوزارة التعليم الأوكرانية، سيجد الطلاب صعوبة كبيرة في فهم هذه الأعمال، خاصة أن «سياقها التاريخي معقد وبعيد». لكن ألا يستحق شباب أوكرانيا قدرا أكبر من الاحترام؟ الواقع أنهم كانوا يطالعون الأدب الروسي لأجيال. وإذا كان الطلاب الأوكرانيون لم يتمكنوا من فهم السياقات التاريخية المعقدة أو البعيدة، أليس من المعقول أن نتوقع منهم أن يجدوا أيضا صعوبة بالغة في قراءة أعمال بلزاك، والأخوات برونتي، وسيرفانتس، وتشوسر؟ يقول فيترينكو إن الأوكرانيين ليسوا بحاجة إلى «أعمال ثقيلة» تصف «معاناة الروح الروسية». لكن من المؤكد أن قوة أعمال مثل «الجريمة والعقاب» من تأليف دوستويفسكي أو «الحرب والسلام» من تأليف ليو تولستوي تكمن في رؤاها الثاقبة في الحالة الإنسانية، وليس فقط الروسية.

في كل الأحوال، لن يغيّر رفض الانخراط في الثقافة الروسية حسابات بوتين أو يجبره على سحب قواته من أوكرانيا. بل لن يُـفضي هذا إلا إلى قطع مصدر محتمل للمعلومات حول أهدافه ودوافعه.

في قصة قصيرة من تأليف نيكولاي ليسكوف بعنوان «حكاية ليفتي الأحول من تولا والبرغوث الفولاذي»، يُـصـدِر القيصر ألكسندر الأول الأمر إلى خادمه بالعثور على روسي قادر على تحسين عمل برغوث ميكانيكي صغير كان القيصر أحضره من لندن. يعمل حدّادو تولا لأيام بلا جدوى. لكن أحدهم -«ليفتي»- يوضح للقيصر في النهاية أن الروس تمكنوا من تركيب حدوات خيول للبرغوث، باستخدام مسامير بالغة الـصِـغَر من صُـنع ليفتي. كان إنجازا بارعا، ولكن ماذا كان الهدف منه؟ إن غزو أوكرانيا لا يخدم مصالح روسيا الوطنية. (لا تستطيع أي دولة حديثة في عالم تحكمه العولمة أن تحل مشاكلها بالقوة). ولكن، مثله كمثل ألكسندر الأول في قصة ليسكوف، يريد بوتين أن يوضح نقطة بعينها: روسيا قوة عظمى قادرة على تحقيق أشياء يعجز آخرون عن تحقيقها. أثار بطرس الأكبر -الذي تذرع به بوتين في محاولته تبرير حرب أوكرانيا- نقطة مماثلة في القرن الثامن عشر، عندما استعاد من السويد «الأراضي الروسية» على ساحل بحر البلطيق. مثلها كمثل العديد من الأعمال الروسية، تنتهي قصية ليسكوف بمأساة. فبعد أن أدهش القيصر والإنجليز على حد سواء، انخرط ليفتي في مسابقة للشرب مع بحار بريطاني في سانت بطرسبرج والتي انتهت بإرساله إلى مستشفى للأشخاص المجهولين، لأنه لم يكن يحمل معه بطاقة هوية. وهناك، يموت ليفتي وهو لا يملك ما يظهره لإثبات النقطة التي أثارها على نحو مبهر.


نقلأ عن صحيفة عُمان


كاتب المقال: نينا إل.خروشوفا أستاذة الشؤون الدولية في المدرسة الجديدة، شاركت في تأليف كتاب (مع جيفري تايلر)، على خطى بوتين: البحث عن روح إمبراطورية عبر إحدى عشرة منطقة زمنية في روسيا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية