الصمّ في غزّة.. ضحايا بلا صوت

الصمّ في غزّة.. ضحايا بلا صوت
الصمّ في غزّة.. ضحايا بلا صوت

مع كل قصفٍ يهزُّ أركان الأرض في غزة، تتملّك الفلسطينية من فئة الصُم سماح أبو السعيد مشاعر الخوف على أبنائها، خشية أن يلحقهم أي أذى جراء الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لمخيمات النزوح غرب مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة.

سماح أبو السعيد، التي استشهد نجلها عبدالله (16 عامًا) قبل بضعة أشهر، تحتضن أبناءها الأربعة كل ليلة، علّها تحميهم من شظايا الصواريخ المتطايرة. جاء ذلك وفق ما عبّرت عنه بلغة الإشارة لابنتها دينا، ونقلته الأخيرة لمراسل "جسور بوست" خلال لقائها على ما تبقى من أنقاض منزلها المدمّر.

الخوف الصامت

ورغم معايشة أبو السعيد لعدة حروب سابقة على القطاع، فإنّ تجربتها خلال هذه الحرب تحمل مشاهد وأحداثًا أكثر ترويعًا، تجعلها قلقة على الدوام على نفسها وأبنائها من "أهوال الخطر الصامت"، كما تقول.

ورغم نزوحها لأكثر من مدينة وفي أكثر من مكان، لا تزال هذه الأم المكلومة تغالب الأسى في روحها بعد فقدها فلذة كبدها، الذي لم يستمع لصوت القذائف وأزيز الرصاص حين خرج لإحضار الطعام وعاد جثة هامدة.

تستذكر أبو السعيد تلك اللحظات القاسية، حين كانت تدرك أن الخطر قد يداهم أبناءها في حرب لا ملاذ آمن فيها، حتى للمدنيين وذوي الاحتياجات الخاصة.

ورغم المأساة، تُظهر هذه السيدة الفلسطينية عزيمة قوية وإرادة للحياة لتربية أبنائها، فهم، كما تقول: "سندها للتغلب على ظروف الحرب وويلاتها المستمرة".

وتستعيد الأم الأربعينية ذكرياتها عن أسرتها قبل اندلاع الحرب، حين كانت تعيش في منزلها الذي تتوق للعودة إليه، عامرًا بالحياة والمرح والوداعة.

تعكس قصة سماح وأبنائها واقعًا مأساويًا تعيشه فئة الصم في قطاع غزة، الذي يشهد حربًا إسرائيلية دامية لأكثر من 15 شهرًا، تفاقمت خلالها معاناتهم بين مرارة الإعاقة، وقسوة النزوح، وشبح المجاعة، ولهيب القصف الإسرائيلي الذي يلاحقهم في كل مكان.

غارق تحت الركام

أما يحيى أبو زايد (24 عامًا) فيروي، مستذكرًا ما مر به خلال قصف منزلهم، مشاعر الفزع الشديد الذي انتابه حين باغتهم صاروخ إسرائيلي، سقط على إثره تحت ثلاثة أسقف من منزله، وهو لا يدرك ما حلّ به وبأسرته من موت محقق.

وعبر لغة الإشارة، يقول الشاب الجامعي لـ"جسور بوست" إنه بقي غارقًا تحت الركام طيلة ست ساعات، ضاغطًا على جسده حتى خارت قواه، غير قادرٍ على إطلاق أي نداءٍ للاستغاثة سوى صراخ غير مفهوم.

يتابع والدمع يغرق عينيه قائلاً: "لم أشعر سوى باهتزاز المنزل، ولم أدرك ما جرى. نمت ليلتي تحت كُتلٍ إسمنتية مغطىً بالغبار والركام حتى اختنقت، وبدأت أصرخ بلا وعي. كنت على مقربة من الموت".

بملامح مُنهكة، يتساءل الشاب عن الذنب الذي اقترفه حتى يتم استهدافه قائلاً: "ألقوا علينا قنابل تزن أطنانًا بهذا الشكل العنيف. أنا لا أنتمي لأي فصيل مقاوم، فلماذا تُسفك دماؤنا دون وجه حق؟".

حياة مُعدمة

وعلى ضفة أخرى من المعاناة، يشعر رائد صافي (45 عامًا) بالخوف المتزايد على أبنائه نتيجة القصف المتلاحق والاقتحامات الإسرائيلية التي لا تستثني أحدًا.

بكثير من الحسرة، يقول صافي بلغة الإشارة إنّ حياته غدت أكثر صعوبة بعد الحرب، إذ بات توفير الطعام والمياه النظيفة حلمًا صعب المنال.

وإلى جانب معاناته في خيمة مهترئة لا تقيه برد الشتاء ولا تحميه من لهيب الصيف، يقول أستاذ لغة الإشارة لمراسل "جسور بوست" إن الحرب فاقمت معاناة فئة الصم، حيث الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وشبكات الاتصال والإنترنت، وصعوبة توفير أدنى متطلبات الحياة، فيما بات التعليم لهذه الفئة مسألة رفاهية في ظل تدهور الأوضاع المعيشية في القطاع المحاصر.

يتابع صافي، قائلاً إن الحرب قضت على كثيرٍ من أحلامه التي خطط لها، لكنه يأمل في انتهائها بفارغ الصبر كي يتوقف قتل المدنيين الذي آلمه كثيرًا.

بارقة أمل

قال خالد أبو غالي، مدير مركز التأهيل التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أثّرت سلبًا على حياة فئة الصم في إيجاد ملاذ آمن لهم ولأسرهم، في ظل تكرار موجات النزوح التي تسببت لهم بنوبات ذعر مفاجئ، خاصة في أوقات الليل بالمناطق الحدودية والنائية.

وأضاف أبو غالي لـ"جسور بوست" أن نصف الأطفال الصم الملتحقين ببرامج التعليم والتأهيل التابعة للجمعية انقطعوا عن الدراسة بسبب صعوبة الوصول إلى مقر الجمعية، نتيجة نزوح الأسر إلى أماكن الإيواء البعيدة، فضلاً عن الطرق الوعرة التي تُصعّب وصولهم.

ورغم حالات الفقر المدقع التي يمر بها أهالي الصم، أشار أبو غالي إلى تعاون الجمعية مع مؤسسات دولية لتقديم الدعم المادي والنفسي والرعاية الطبية لذوي الإعاقة السمعية.


وطالب المدير السلطات الإسرائيلية بإدخال السماعات الإلكترونية وقطع غيارها لفئة الصم كونها ضمن الفئات الأكثر تضررًا من تداعيات الحرب.
 

دعم نفسي

وذكرت إيمان عوض، المرشدة النفسية بمدرسة رؤية لتأهيل الأطفال الصم التابعة لـ"يونيسيف"، أن الحرب تركت آثارًا نفسية كارثية على الأطفال الصم في غزة. وأوضحت أن هؤلاء الأطفال بحاجة إلى دعم نفسي مكثف نتيجة تعرضهم للخوف والقلق وأعراض ما بعد الصدمة.

وأكدت عوض ضرورة توفير بيئة أسرية خاصة لهؤلاء الأطفال، تمنحهم الأمان وتتيح لهم التعبير عما يجول في خواطرهم، مع احتوائهم ومحاولة تهدئتهم قدر المستطاع.

وبعد مرور أكثر من 545 يومًا على حرب الإبادة، ما زال الأطفال، خاصة من فئة الصم، يدفعون الثمن الأكبر، حيث تشير الأوضاع إلى أنهم ليسوا بخير، بل هم الأكثر تضررًا نتيجة حرب دمرت كل مقومات الحياة في القطاع الساحلي الصغير.

أرقام صادمة

وكشف مدير جمعية أطفالنا للصمّ بغزة فادي عابد، عن ارتفاع ملحوظ في نسب الأفراد الذين يحتاجون لخدمات سمعية من مختلف الفئات العمرية في قطاع غزة بعد الحرب الإسرائيلية؛ بسبب تزايد مسببات الإعاقة السمعية الناجمة عن ظروف الحرب.

وقال عابد في تصريحات لـ"جسور بوست": "إن المسح الدوري الذي أجرته طواقم الجمعية قبيل اندلاع الحرب على 15 ألف عينة أظهر أن نسبة الأشخاص المحتاجين لتدخلات سمعية كان 1.4% بينما أظهر المسح الذي تم في نهاية ديسمبر الماضي تزايد النسبة بشكل خطير وصلت إلى 2.8%.

وأرجع عابد هذا التزايد إلى تعرض النازحين لوابل كثيف من الانفجارات خلال الحرب، وتصاعد دويها، بما يشير إلى استخدام أسلحة ذات قوة انفجارية شديدة تؤثر على القدرات السمعية للناجين منها مستقبلاً.

وحذّر مدير الجمعية من وجود أكثر من 35 ألف شخص معرضين لخطر فقد السمع بحسب ما بيّنته الدراسة الحديثة، مطالبًا المجتمع الدولي والمنظمات الأممية بالضغط على إسرائيل للسماح بإدخال السماعات والبطاريات وأجهزة فحص السمع لتلبية الاحتياج المتزايد للأشخاص المعرضين لفقد السمع المؤقت أو الدائم. 

ضحايا بلا حماية

وأكد المحامي والباحث القانوني بمركز الميزان لحقوق الإنسان، سمير المناعمة، أنّ فئة الصم بغزة لم تحصل على الحماية الدولية الخاصة في فترة الحرب؛ بسبب تكرار استهدافهم، وهم يواجهون معاناة شديدة لعدم شعورهم بمكامن الخطر الذي يحيط بهم، وعدم إدراكهم لنداءات وأوامر الإخلاء في المناطق القريبة من التوغلات والاجتياحات البريّة الإسرائيلية.

ولفت المناعمة في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن فئة الصم تتمتع كغيرها من ذوي الاحتياجات الخاصة بالحماية من قبل القانون الدولي الإنساني باعتبارها فئة لا تحمل السلاح ولا تشارك في القتال، وبالتالي وجب الامتناع عن أي فعل يمس بحياتهم أو من شأنه الإضرار بهم.

واتهم المناعمة الجيش الإسرائيلي بعدم اتخاذ أي تدابير لحماية هؤلاء الأشخاص خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.

واعتبر الباحث بالمركز، إقرار محكمة العدل العليا بارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بمثابة دليل قاطع على أنها لم تميّز في استهداف المدنيين، وكان الغرض من عدوانها إحداث القتل العمد لكل الفئات بمن فيهم ذوو الإعاقة.

وبيّن المحامي الفلسطيني أن فئة الصم محميون ضمن اتفاقية الأشخاص ذوي الإعاقة واتفاقية جنيف الرابعة بما تشمل ضمان حقهم في الحياة والسلامة الجسدية وعدم تعرضهم للتعذيب والاحتجاز، وتوفير التقنيات المساعدة والمصممة لهم حسب إعاقتهم، وهو ما يوجب تدخلاً دوليًا لضمان سلامتهم خلال الحرب.

واليوم، وبعد مرور أكثر من 15 شهرًا على حرب الإبادة الجماعية، ما زال الأطفال وخاصة من فئة الصم، يدفعون الثمن الأكبر وواقع الحال يشير إلى أنهم ليسوا بخير، وهم الشريحة الأضعف والأكثر تضررًا نتيجة حرب دمرت كل مقومات الحياة في القطاع الساحلي الصغير.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية