«حرب الرسوم».. ترامب يشعل مواجهة اقتصادية عالمية غير مسبوقة ضد الصين وأوروبا
«حرب الرسوم».. ترامب يشعل مواجهة اقتصادية عالمية غير مسبوقة ضد الصين وأوروبا
وسط تصاعد التوترات الدولية، وخصوصًا بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وأوروبا من جهة أخرى، أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما وصفه البعض بـ"أكبر ضربة جمركية منذ عام 1910"، طالت أكثر من 180 دولة حول العالم.
وقد أثارت هذه الخطوة مخاوف واسعة من اندلاع حروب تجارية شاملة أو حتى الدخول في مرحلة ركود اقتصادي عالمي، خاصة في ظل تعهد الصين بـ"القتال حتى النهاية"، قبل أن ترفع رسومها الجمركية الأربعاء إلى مستوى غير مسبوق بلغ 104%.
ويرى خبراء تحدثوا إلى "جسور بوست" أن استمرار حرب الرسوم الجمركية، دون الدخول في مفاوضات جادة بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يجرّ الاقتصاد العالمي نحو أزمة حقيقية، ستكون الدول النامية والفقيرة أول وأكثر من يدفع ثمنها.
وأشار موقع "أكسيوس" الأمريكي إلى أن الاقتصاد العالمي لم يشهد سوى صدمتين كبيريين منذ الحرب العالمية الثانية: الأزمة المالية في 2008–2009، وجائحة كوفيد-19 في عام 2020، وإذا استمرت سياسات ترامب التصعيدية، فإن العالم قد يكون على موعد مع صدمة اقتصادية ثالثة في أقل من عقدين.
ومع تصاعد القلق، عادت ذكريات "الاثنين الأسود" في أكتوبر 1987 إلى أذهان المستثمرين، حين انهارت البورصات الأمريكية نتيجة عجز كبير في الميزان التجاري والموازنة وارتفاع أسعار الفائدة، ما أدى إلى خسارة مؤشر "داو جونز" بنسبة 22.6% في يوم واحد.
تصعيد غير مسبوق
في 2 أبريل الجاري، أعلن الرئيس ترامب فرض رسوم جمركية جديدة على أكثر من 180 دولة، بما فيها حلفاء تقليديون وخصوم اقتصاديون.
وجاءت النسب كالتالي: 34% على الصين (بالإضافة إلى 20% سابقة منذ توليه الرئاسة)، 20% على الاتحاد الأوروبي، 46% على فيتنام، 24% على اليابان، 26% على الهند، 30% على جنوب إفريقيا، 37% على بنغلاديش، 17% على إسرائيل، و10% على كل من تركيا والمملكة المتحدة.
ولم تكن الدول العربية بمنأى عن هذه الرسوم، حيث جاءت سوريا في صدارة المتأثرين بنسبة 41%، تليها العراق بنسبة 39%، ثم الجزائر بـ30%، كما فرضت رسوم بنسبة 10% على كل من مصر، السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، السودان، اليمن، لبنان، جيبوتي، عُمان، البحرين والمغرب.
ووصف دونالد ترامب قراره بأنه "يوم تحرير طال انتظاره، وإعلان لاستقلال الاقتصاد الأمريكي"، مضيفًا أنه سيقود في نهاية المطاف إلى "زيادة الإنتاج المحلي، وتعزيز المنافسة، وخفض الأسعار للمستهلك الأمريكي".
الصين والأسواق المضطربة
وفي المقابل، ردت الصين سريعًا بفرض رسوم جمركية بنسبة 34% على المنتجات الأمريكية، فيما صعد ترامب تهديداته، معلنًا عزمه فرض رسوم إضافية بنسبة 50% إذا لم تتراجع بكين عن قراراتها، وكتب على منصة "تروث سوشيال": "إذا لم تُسحب الرسوم الصينية، فستنتهي جميع المحادثات معهم".
وقد تسبب هذا التصعيد في موجة اضطرابات جديدة ضربت الأسواق المالية حول العالم، وتراجعت الأسهم الأمريكية، قبل أن تعاود الانخفاض مرة أخرى بعد نفي البيت الأبيض تقريرًا عن نية ترامب تعليق الرسوم لمدة 90 يومًا، ويبدو أن مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" في طريقه لتسجيل تراجع بنسبة 20% عن ذروته الأخيرة في فبراير.
الأسواق الآسيوية والأوروبية لم تكن في حال أفضل؛ فقد افتتح مؤشر "داكس" الألماني على تراجع بنسبة 9%، وهبط "فوتسي" في لندن بـ5%، كما خسر مؤشر "نيكاي 225" الياباني 7.9%، وانخفض "توبكس" الأوسع نطاقًا بنسبة 7.7%، وتراجعت أسهم "سوني" بأكثر من 10%.
أما في الصين، فشهدت البورصات في بر الصين الرئيسي وهونغ كونغ انهيارات حادة، دفعت صندوق الثروة السيادي الصيني للتدخل وتهدئة الأسواق، وانخفضت أسهم تايوان بنسبة 10% وهو أكبر تراجع يومي في تاريخها.
في ظل هذه الأوضاع، رفع بنك "غولدمان ساكس" احتمالات دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود إلى 45%، كما تأثرت أسعار النفط بشدة، فتراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ نحو أربع سنوات، حيث سجل خام "برنت" 65.02 دولارًا للبرميل، في حين بلغ خام "غرب تكساس الوسيط" الأمريكي 61.61 دولارا.
سنقاتل حتى النهاية
في تصعيد جديد لأزمة الرسوم الجمركية، أعلنت وزارة التجارة الصينية، في بيان صدر يوم الثلاثاء، أن بكين "ستقاتل حتى النهاية" في مواجهة القرار الأمريكي بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 50% على الواردات الصينية.
ووصفت الوزارة القرار بأنه "اعتداء غير مبرر يتجاوز الحدود المقبولة"، مشددة على أن الصين ستدافع عن سيادتها وأمنها القومي، وستعمل على حماية اقتصادها وتعزيز قدراته في مواجهة التحديات التجارية الدولية.
وفي ذات السياق، أكدت وزارة الخارجية الصينية أن الإجراءات التي اتخذتها البلاد هي "ردة فعل مشروعة" على ما وصفته بـ"السياسات التنمّرية" التي تنتهجها الولايات المتحدة. وأضاف البيان أن تصرفات واشنطن تعكس سياسة انفرادية تتعارض مع المبادئ العادلة للتجارة العالمية.
ونقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن الخارجية الصينية قولها إن بكين لن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستتخذ كافة الإجراءات اللازمة للدفاع عن مصالحها، بما يعكس "روح مقاومة صلبة ونية حاسمة" لمواجهة أي محاولات للتدخل في شؤونها الداخلية واستراتيجيتها الاقتصادية.
مواقف متباينة
من جهته، قال مدير المجلس الاقتصادي القومي الأمريكي، كيفن هاسيت، إن الرئيس ترامب "عازم على تنفيذ ما يراه صائبًا ويؤمن بنجاحه"، لكنه في الوقت ذاته "منفتح على الاستماع إلى عروض الشركاء التجاريين، خصوصًا إذا تضمنت صفقات مفيدة للصناعة والمزارعين الأمريكيين".
في المقابل، أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيبدأ الأسبوع المقبل فرض رسوم جمركية مضادة على بعض السلع الأمريكية، في خطوة اعتُبرت أولى الردود الأوروبية الرسمية على التصعيد الأمريكي.
وأبدى مسؤولون في بروكسل استعدادهم للتفاوض مع إدارة ترامب على اتفاق شامل يفضي إلى إلغاء الرسوم الجمركية على السلع الصناعية بشكل متبادل.
وقال مفوض التجارة الأوروبي، ماروش شيفشوفيتش، في مؤتمر صحفي: “عاجلًا أم آجلًا، سنجلس على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة للتوصل إلى حل وسط”، فيما أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن الاتحاد الأوروبي يستعد لاتخاذ "إجراءات مضادة إضافية لحماية مصالحه في حال فشل المفاوضات".
وفي تعليقاته على الأزمة، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرسوم الأمريكية بأنها "وحشية وتمثل صدمة للتجارة الدولية"، محذرًا من أن نتائجها "ستُضعف المواطن الأمريكي وتُفقِره".
كما عد المستشار الألماني أولاف شولتس قرار ترامب "مسارًا خطِرًا سيؤثر سلبًا في الاقتصاد العالمي"، دون أن يستبعد خيار الحوار مع واشنطن لتفادي نشوب حرب تجارية.
أبعاد أوسع للنزاع التجاري
وفي تحليله للمشهد، أوضح الباحث اللبناني في الشؤون الدولية، طارق أبوزينب، لـ"جسور بوست" أن النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا يتجاوز كونه مجرد خلاف اقتصادي، ليعكس مرحلة جديدة من التنافس الجيوسياسي والاقتصادي بين القوى الكبري.
وأشار أبو زينب إلى أن هذه الحرب الجمركية تُفاقم تباطؤ النمو العالمي، وتُعزز من موجات التضخم نتيجة ارتفاع أسعار الواردات، كما أن تداعياتها تمتد لتشمل الأسواق الناشئة، التي تواجه بالفعل تحديات في الطلب العالمي وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
وحذّر من أن استمرار هذا التصعيد يهدد استقرار الأسواق العالمية ويعطّل سلاسل الإمداد، مما يضع الشركات، سواء الكبرى أو الناشئة، أمام اختبارات قاسية، كما شدد على أن النزاع قد يُعيد تشكيل خارطة التحالفات الاقتصادية الدولية، ويدفع بعض الدول نحو شراكات جديدة بعيدًا عن المحاور المتنازعة.
واختتم أبو زينب بالتحذير من أن استمرار السياسات الحمائية والانفرادية يهدد مستقبل النظام التجاري العالمي، ويضعف من دور المؤسسات الدولية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية، داعيًا إلى مراجعة شاملة لقواعد التجارة الدولية لتجنّب انهيار اقتصادي واسع النطاق.
للهيمنة وليس للتضخم
بدوره عد أستاذ الاقتصاد في الجزائر، مراد كواشي، في تصريح لـ"جسور بوست" الخطوات التصعيدية التي يتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا تهدف إلى محاربة التضخم كما يُروج، بل تسعى إلى فرض هيمنة الاقتصاد الأمريكي على باقي اقتصادات العالم، خاصة تلك النامية والفقيرة.
وأوضح كواشي أن "الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن ستلحق ضررًا كبيرًا بالتجارة العالمية، وستؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي، ليس فقط على المستوى العالمي بل داخل الولايات المتحدة نفسها"، مشددًا على أن هذه الإجراءات من شأنها زعزعة استقرار الأسواق المالية وزيادة احتمالات الركود.
وتوقع أن تؤدي الأزمة، إذا ما استمرت على هذا النحو، إلى نشوء تحالفات اقتصادية جديدة بين الدول الرافضة لتلك الرسوم، ما قد يعزز من التبادل التجاري فيما بينها ويشكّل قطبًا اقتصاديًا منافسًا للولايات المتحدة.
ورأى كواشي أن هذا السيناريو قد يفضي في نهاية المطاف إلى إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، وتعميق الصراع التجاري بين أمريكا والصين، ورغم اتساع نطاق الإجراءات الأمريكية، قلل الخبير الاقتصادي من تأثير تلك الرسوم على الدول العربية، مرجعًا ذلك إلى "محدودية صادراتها إلى السوق الأمريكية"، وهو ما يحد من حجم التأثر المباشر.
أما بشأن مستقبل الصراع الجمركي بين أمريكا وكل من الصين وأوروبا، فقال كواشي: "من مصلحة الاقتصاد العالمي أن تتفق الأقطاب الاقتصادية الثلاثة الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، والاتحاد الأوروبي) على إطار تفاوضي جاد ينهي دوامة الرسوم المتبادلة".
وأشار إلى أن استمرار التصعيد سيقود حتمًا إلى ركود عالمي، وستتحول المنافسة التجارية إلى حرب مفتوحة يرد فيها كل طرف على الآخر بالمثل.