تداعيات الحرب الأوكرانية.. تراجع التمويل الإنساني وانهيار البنية الاقتصادية يفاقمان أزمات الغذاء واللاجئين
على المستويين المحلي والدولي
بينما تطوي الحرب في أوكرانيا عامها الثالث، تتكثف ملامح المشهد الدولي وتتعقد، فتبدو أوروبا وكأنها تسترجع شبح الحروب القديمة وسط عالم يتغير، بسرعة وإرباك، في وجه أزمات متداخلة.
الحرب التي بدأت باجتياح روسي في 24 فبراير 2022 تحولت إلى اختبار طويل لنظام عالمي متصدع، ولإرادة الأمم المتحدة، ولقدرة العالم على كبح جماح نزاعات لا يبدو لها مخرج قريب.
في أحدث جلسة عقدها مجلس الأمن الدولي لمناقشة الوضع في أوكرانيا، حذرت الأمم المتحدة من أن النزاع قد وصل إلى "نقطة تحول محتملة"، مع استمرار الهجمات وتدهور الأوضاع الإنسانية وتراجع الدعم الدولي.
ووصفت وكيلة الأمين العام للشؤون السياسية وبناء السلام، روز ماري ديكارلو، الوضع بأنه اختبار خطِر للشرعية الدولية، مطالبة بوقف فوري لإطلاق النار واحترام سيادة أوكرانيا بالتوازي، فيما كشفت جويس مسويا، من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، أن تراجع التمويل أجبر المنظمة على إعادة ترتيب أولوياتها لتغطية 4.8 مليون شخص فقط في 2025، رغم الحاجة الماسة إلى دعم 14.6 مليون، في حين أن المطلوب مالياً لا يقل عن 1.75 مليار دولار هذا العام.
كارثة مكتملة الأركان
باتت الأزمة الإنسانية في أوكرانيا كارثة مكتملة الأركان، في بلد كان يضم قرابة 41 مليون نسمة قبل الحرب، اضطر أكثر من 6 ملايين أوكراني إلى اللجوء خارج البلاد، في حين نزح داخلياً أكثر من 5 ملايين، وفق بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وتشير الإحصاءات الحديثة إلى أن نحو 40% من السكان باتوا يعتمدون على مساعدات إنسانية للبقاء، وهو رقم مرعب في بلد أوروبي حديث العهد بالاستقلال.
لكن مع دخول النزاع عامه الثالث، لا يقتصر التهديد على الداخل الأوكراني، فالحرب التي جلبت الموت والدمار، أدت أيضاً إلى واحدة من أعقد الأزمات الاقتصادية واللوجستية في العالم، بدءاً من تعطيل سلاسل الإمداد الغذائية والطاقة، وصولاً إلى استنزاف الموارد المالية للدول المانحة، التي باتت تميل شيئاً فشيئاً إلى تقليص تعهداتها، في ظل ضغط الأزمات المحلية والتضخم.
ويمثل تراجع التمويل الإنساني أحد أكثر جوانب الأزمة خطورة، حيث أدّى نقص الدعم المالي إلى إيقاف أو تقليص برامج حيوية، أبرزها توزيع الغذاء، وتأمين المأوى، ودعم الرعاية الصحية والنفسية، فقد أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 14 مليون شخص داخل أوكرانيا يحتاجون إلى خدمات صحية منتظمة، بينهم 3 ملايين مصابون بأمراض مزمنة تتطلب علاجاً دائماً، وقد أُغلقت مئات العيادات والمستشفيات بسبب تدميرها أو نقص التمويل، ما جعل الرعاية الأولية في بعض المناطق الشرقية معدومة تماماً.
انعدام الأمن الغذائي
ويشير مسؤولو برنامج الغذاء العالمي إلى أن الحرب تسببت في مضاعفة انعدام الأمن الغذائي داخل أوكرانيا، خاصة في المناطق التي لا تزال ساحة للمعارك، مثل دونيتسك وخاركيف وزاباروجيا، ففي تقرير صدر في يناير 2025، أكد البرنامج أن أكثر من 9 ملايين أوكراني يعانون انعدام الأمن الغذائي المتوسط أو الحاد.
المنظمات الإغاثية، من جهتها، باتت تعمل تحت ضغط متصاعد، فإلى جانب شح الموارد، تواجه أيضاً صعوبة الوصول إلى بعض المناطق بسبب استمرار القصف، ورفض أطراف النزاع أحياناً ضمان ممرات آمنة، وتقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن أكثر من 1.5 مليون شخص يقيمون في مناطق يصعب الوصول إليها، ما يجعل إيصال الغذاء والماء والدواء شبه مستحيل.
أما التكاليف الاقتصادية للحرب، فهي مرعبة بامتياز، فقد قُدّرت خسائر البنية التحتية الأوكرانية حتى ديسمبر 2024 بأكثر من 411 مليار دولار، بحسب تقرير مشترك صادر عن البنك الدولي والحكومة الأوكرانية والاتحاد الأوروبي، وتشمل هذه الأرقام دماراً واسعاً في الطرقات، ومحطات الطاقة، والمدارس، والمستشفيات، وشبكات المياه والصرف الصحي.
وتشير وزارة الاقتصاد الأوكرانية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد انكمش بنسبة 29.1% في عام 2022، وواصل الانكماش بنسبة 6.5% في 2023، ما يعكس حجم الكارثة الاقتصادية، كما ارتفعت نسب البطالة والفقر، وانهارت القدرة الشرائية للمواطنين، في وقت تُخصص فيه الحكومة معظم مواردها للجهد العسكري.
الدول الأوروبية، من جانبها، لم تبقَ بمنأى عن التداعيات، فإن تدفق اللاجئين الأوكرانيين -رغم الترحيب الذي قوبلوا به بدايةً- فرض ضغطاً كبيراً على البنى التحتية والخدمات في دول مثل بولندا، ألمانيا، ورومانيا، وتشير إحصاءات الاتحاد الأوروبي إلى أن ما يقارب 4.2 مليون لاجئ أوكراني يعيشون حالياً داخل دول الاتحاد، غالبيتهم يحتاجون إلى دعم في مجالات الإسكان، التعليم، والرعاية الصحية.
تداعيات اقتصادية
اقتصادياً، تسببت الحرب في رفع أسعار الطاقة والغذاء في أوروبا إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، ففي 2022 و2023، ارتفعت أسعار الغاز بنحو 300%، قبل أن تستقر نسبياً في منتصف 2024، وذلك بسبب اعتماد القارة على الغاز الروسي الذي تم تقليصه بشكل حاد، كما أثرت الحرب في واردات الحبوب، خصوصاً من أوكرانيا وروسيا، وهما دولتان تمثلان معاً نحو 30% من صادرات القمح العالمية.
إن تعطيل صادرات الحبوب من البحر الأسود أثّر بشدة في الأمن الغذائي العالمي، خاصة في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تعتمد على القمح الأوكراني بأسعار مدعومة. وقد أطلقت الأمم المتحدة مبادرة حبوب البحر الأسود في يوليو 2022، والتي سمحت بتصدير الحبوب رغم الحرب، لكنها توقفت مراراً بسبب خلافات سياسية، وأعلن الكرملين انسحابه منها في يوليو 2023، ما زاد من تفاقم الأزمة.
وفي إفريقيا، على سبيل المثال، ارتفع عدد الأشخاص المهددين بانعدام الأمن الغذائي إلى 146 مليوناً في 2024، بحسب برنامج الأغذية العالمي، وهو أعلى رقم منذ عقود، وفي اليمن، والسودان، ولبنان، كانت الفاتورة مضاعفة، حيث ارتفعت أسعار الخبز بنسبة وصلت إلى 60% في بعض المناطق، نتيجة نقص القمح العالمي وارتفاع كلفة الشحن.
التمويل في مهب النزاعات
أكد أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، الدكتور صلاح الدين فهمي، أن تراجع التمويل الإنساني المخصص لدعم الشعوب المتضررة من النزاعات يمثل تحديًا عالميًا متصاعدًا، لا يقتصر فقط على أوكرانيا، بل يمتد ليشمل دولًا مستقرة سياسيًا مثل مصر، والتي تعاني من صعوبات اقتصادية وتنموية رغم استقرارها.
وأوضح فهمي في تصريحاته لـ"جسور بوست" أن تخصيص الموارد للدول التي تعاني من الحروب والاضطرابات ينعكس سلبًا على الدول التي تحتاج إلى دعم لتحقيق التنمية، مثل مصر، حيث تستنزف البرامج الكبرى مثل "حياة كريمة" موارد الدولة لتوفير حياة أفضل للفئات الأكثر فقرًا.
وأضاف أن زيادة عدد بؤر النزاع حول العالم، ومنها أوكرانيا وفلسطين، أدى إلى تشتيت التمويل الدولي وتوزيعه على نطاق أوسع، ما قلل من الحصص المخصصة لدولة بعينها، وأثر حتى في أوكرانيا نفسها التي تحتاج دعمًا مستمرًا.
لفت فهمي إلى أن التمويل الموجه للبرامج الاجتماعية في مصر يعتمد بشكل أساسي على الموازنة العامة للدولة، إلى جانب الصناديق السيادية، وأموال الأوقاف والصدقات، وهي مصادر تسهم في تغطية احتياجات الفئات الأكثر احتياجًا، لكنّها تظل محدودة في ظل التحديات المتراكمة.
معاناة المدنيين في أوكرانيا
تحدث فهمي عن آثار الحرب في أوكرانيا، مشيرًا إلى أن تراجع التمويل الإنساني أدى إلى ضعف قدرة المنظمات الدولية على تقديم الغذاء والدواء والمأوى للملايين من النازحين، وأكد أن نقص الموارد المالية أجبر هذه الجهات على تقليص أنشطتها، ما زاد من معاناة المحتاجين ومنع الوصول إليهم في الوقت المناسب.
كما أشار إلى أن الحرب خلفت دمارًا واسعًا في البنية التحتية، من جسور ومستشفيات وشبكات طاقة، ما يتطلب استثمارات ضخمة لإعادة الإعمار، ولفت إلى أن تعطيل سلاسل الإمداد أضر بالإنتاجية في قطاعات حيوية، ورفع نسب البطالة والفقر، وأدى إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية في عموم البلاد.
رأى فهمي أن الأزمة الأوكرانية لم تؤثر فقط في الداخل، بل أثقلت كاهل دول الجوار مثل بولندا ورومانيا والمجر، التي استقبلت أعدادًا كبيرة من اللاجئين، وقال إن هذه الدول اضطرت لتوفير خدمات الرعاية والسكن والتعليم، ما زاد الضغوط على بنيتها التحتية وأسواق عملها واقتصاداتها.
الأمن الغذائي العالمي
أكد فهمي أن استمرار النزاع في أوكرانيا تسبب في تدمير موانئها وأراضيها الزراعية، وهو ما أدى إلى نقص شديد في صادرات الحبوب كالقمح والذرة، ما أسهم في أزمة غذائية عالمية، وأشار إلى أن العديد من الدول التي تعتمد على هذه الإمدادات تأثرت مباشرة، فارتفعت أسعار الغذاء، وزادت نسب الجوع.
اختتم فهمي تصريحاته بالتأكيد على ضرورة تنسيق الجهود بين الحكومات والمنظمات الدولية للتعامل مع التحديات المتفاقمة جراء النزاعات، وحث على وضع استراتيجيات شاملة ومستدامة لمعالجة آثار الحرب في أوكرانيا، وتأمين التمويل اللازم لحماية المتضررين وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.
تداعيات على اللاجئين
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي ورئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، خالد الشافعي، أن تراجع التمويل الإنساني يشكل تهديدًا مباشرًا لقدرة الدول والمنظمات على تلبية احتياجات اللاجئين والنازحين، ولفت إلى أن هذا التراجع انعكس سلبًا على الخدمات الأساسية، من صحة وتعليم إلى الإيواء والغذاء.
وقال في تصريح لـ"جسور بوست" إن الحرب الروسية على أوكرانيا دمرت البنية التحتية بشكل واسع، ما أثر في جودة الحياة والخدمات داخل البلاد وخارجها، وأضاف أن الدول المضيفة للاجئين الأوكرانيين باتت تعاني من تضخم الطلب على مواردها المحدودة، ما يضعف قدرتها على استيعاب موجات النزوح المتتالية.
تابع الشافعي حديثه موضحًا أن الزراعة الأوكرانية، التي تُعد ركيزة للأمن الغذائي العالمي، تعرضت لنكسة كبيرة بسبب الحرب، ما أدى إلى تراجع حاد في كميات التوريد للدول المستوردة، وخلق فجوة غذائية حادة في العديد من المناطق، كما تسبب تعطيل سلاسل الإمداد في اضطراب الأسواق العالمية، ورفع الأسعار، وعمّق الأزمات في الدول التي تعتمد على الواردات.
اختتم الشافعي تصريحاته بالتأكيد على أن الأزمة الأوكرانية تمثل أزمة إنسانية واقتصادية شاملة، تتطلب تكاتفًا دوليًا فوريًا، ليس فقط لتوفير التمويل، ولكن لوضع حلول جذرية ومستدامة تدعم اللاجئين، وتعيد بناء البنى التحتية، وتحد من تداعيات الحرب الممتدة على الاقتصاد العالمي.